من حيث لم يتوقع بالطبع، ولم يدر، أدلى بيل كلينتون بدلوه في مسألة ياسر عرفات المتفاقمة اليوم. فكتابه "حياتي" الذي صدر قبل اسابيع، رفع عرفات الى سوية التسبّب بإفشاله، لا أكثر ولا أقل.
ولنقّاد الكتب ان يدلّلوا على جوانب فجّة واخرى دعائية في الكتاب، وان ينتقدوا كتابيّته التقريرية الممتدة على صفحات متتالية. وهذه، عموماً، من عيوب السياسيين حين يكتبون، او يُكتب لهم، من غير ان يكونوا، هم أنفسهم، كتّاباً. الا ان آخر ما يمكن ان يقوله نقاد السياسة هو اتهام كتاب الرئيس الاميركي السابق بـ"بمعاداة العرب". والدليل انه يحمّل رئيس الحكومة الاسرائيلية السابق ايهود باراك مسؤولية افشال محادثات السلام مع سورية. فمع ان الاخير كان القوة الدافعة وراء قمة شيبردزتاون في كانون الثاني (يناير) 2000، غير انه لم يكن، في رأي كلينتون، على استعداد فعلي لتقديم تنازلات جدية. ولئن رد الرئيس الأميركي السابق سلوك باراك هذا الى نقص تجربته في السياسة، ورداءة النصائح التي تلقاها، فهو لم يخفف اطلاقاً من نتائج هذا السلوك. ذاك ان النجاح في التوصل الى سلام مع دمشق كان، لو حصل، لينعكس ايجاباً على جبهة السلام الفلسطيني - الاسرائيلي، والسلام عموماً، فضلاً عن حظوظ باراك السياسية نفسها.

الا ان فشل كلينتون في اقناع رئيس الحكومة الاسرائيلية ظل أصغر بكثير من فشله مع القائد الفلسطيني. فهو اذ يتناول بالتفصيل الجهود التي بذلها وبعض المناورات التي استخدمها في هذا الاتجاه، وليته فعل في بداية عهده الأول لا أواخر عهده الثاني، يضعنا وجهاً لوجه امام فهم عرفات للسياسة. فحين شكره رئيس السلطة الفلسطينية على "كل جهودي، وأخبرني أي رجل عظيم كنتُه"، اجابه كلينتون: "السيد الرئيس، انا لست رجلاً عظيماً. انا فاشل، وانت الذي جعلتني فاشلاً".
وما من شك في ان هذه الأيام السوداء تتصل بتلك الأيام السوداء، والى حد بعيد تنبثق منها. وقد تصحّ انتقادات البعض لمدى جدية عرض كلينتون - باراك، وبالتأكيد تصحّ الادانة للطريقة الاسرائيلية المقزّزة في الكلام عن "العرض السخيّ"، خصوصاً حين يُستخدم غطاءً وتبريراً لأعمال القمع والتهديم والتجريف اللاحقة. غير ان حقائق ثلاثاً تبقى ماثلة وأساسية تؤكدها الحقائق أكثر بكثير مما تشكك بها أقوال هذا الطرف أو استخدامات ذاك:

الأولى، ان العرض المذكور كان، بقياس كل ما شهده تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي، نقلة نوعية كبيرة الى الأمام،
والثانية، ان قبوله، على نواقصه وشوائبه، كان لينقل التناقضات الى الداخل الاسرائيلي، بدلاً من ان تتولى الانتفاضة مثل هذه المهمة التدميرية لكل شيء، وللفلسطينيين أساساً،
والثالثة، ان قياسه بالحاضر الفلسطيني، وآخر فصوله، وليس الأخير، ما تشهده غزة، يقطع لمصلحة القبول الذي لم يحصل بالعرض.
لكن الحقيقة الرابعة التي تفوق سابقاتها أهمية هي إسهام النهج الذي رمز اليه ياسر عرفات في تصديع النهج الذي رمز اليه بيل كلينتون. فهل ثمة حد لما صدّعه عرفات وقيادته: فلسطينياً وعربياً وعالمياً؟