اعترفت الأم الشابة الفرنسية، ماري ليوني لابلانك (23 عاما)، بأنها كذبت كذباً صريحاً ومقصوداً عندما اختلقت قصة الهجوم الذي تعرضت له يوم الجمعة التاسع من يوليو/تموز من قبل ستة شبان وصفتهم بأنهم "عرب سمر من شمال افريقيا تتراوح اعمارهم بين الخامسة عشرة والعشرين". واعتذرت. ولكن لنقرأ نص الاعتذار الذي نشرته ماري ليوني لابلانك: "اعتذر لرئيس الدولة وللوزيرة نيكول جودج، وكل الناس الذين خرجوا للتظاهر وللتعبير عن دعمهم لي بالكذب الذي نشرته. انا نادمة على افعالي واعتذر أمام كل من أسأت اليه".

أمر ما غير مريح في هذا الاعتذار، شيء ما يزعج القارئ او المستمع السوي، ربما لأنه فعلا معوّج. نعم. لا يشمل الاعتذار اي اعتذار للعرب أو المسلمين أو السمر او الأفارقة الشماليين.. الا اذا كانوا اذكياء كفاية ليستنتجوا من الجملة الاخيرة انهم مشمولون في عبارة: "وكل من أسأت له". ويبقى الاعتذار الصريح محصوراً برئيس الدولة الذي استنفر، خوفا من "الورطة" التي كانت ستكون من نصيبه لو لم يستنفر، والوزيرة التي استنكرت والمتظاهرين ضد العداء للسامية في فرنسا الذين ضللتهم حضرتها. فهم برأيها، أو برأي من نص لها الاعتذار، الضحية الحقيقية وربما برأي الاعلام الذي نقل الاعتذار. اما العرب فلا يعقل ان يوجه الاعتذار اليهم لئلا يحسبوا أنهم ابرياء ف "تكبر رؤوسهم". وعلى كل حال ليس العرب والمسلمون إلا ظاهرة عرضية مفارقة مرافقة وغير مقصودة للكذب في هذه الحالة كما سوف نرى، ولذلك فهم مجرد ظاهرة جانبية في الاعتذار أيضاً.

قصة الأم الشابة طريفة فعلاً. تقارير الشرطة تفيد بأن لها تاريخاً من الشكاوى عن اعتداءات ومحاولات اغتصاب وقعت لها ولم يتم ايجاد الفاعلين. ولكن هذه المرة وبمساعدة صديقها الذي أعانها على رسم الصلبان المعقوفة على بطنها، كانت الكذبة تصويرية ونموذجية كأنها مقترضة من كتب شعبية بعشرة قروش على وزن: "كيف تكسب رسالة لحبيبتك"، "كيف تكذب على الاصدقاء وتؤثر في الناس" بدل "كيف تكسب الأصدقاء الخ". هجوم في قطار الضواحي، مجموعة عنيفة من ستة شبان عرب، عشرون راكباً في القطار لم يتدخل احدهم او يخف لمساعدتها، عدم الرأفة بطفلها الذي كانت تجره في عربة عند الهجوم عليها، تمزيق ملابسها بسكين وجزء من شعرها واسقاط عربة طفل ابن الثلاثة عشر شهراً. وباختصار، عصابة من الوحوش الحقيقيين.

قد تثير هذه القصة تداعيات عند العرب وغيرهم من الاقليات في اوروبا عن قطارات الضواحي او القطارات المكتظة بمؤيدي فرق كرة القدم السكارى بعد مباراة في فرنسا وغيرها، والاعتداءات التي يقوم بها ال"سكين هيدز" وال "هوليجانز" على انواعهم ضد العرب او السود او الاجانب بشكل عام، وأحياناً ضد الشيوخ والعجائز وغيرهم. في هذه القصة انقلبت الصورة فظهرت فيها مجموعة من ستة شبان عرب كأنهم "سكين هيدز" او نازيون جدد. ثم تخيل عشرين مسافراً غير مبالين في الخلفية، كناية عن الاغلبية الأوروبية الصامتة عند صعود النازية عندما سيق اليهود الى معسكرات الاعتقال وأفران الغاز. افتراء الفتاة يعج برموز ذات مغزى "للعقل الجمعي" اذا صح التعبير.

وبعد ان اصطف السياسيون الفرنسيون الواحد تلو الآخر لادانة الجريمة والمطالبة بانزال اقسى العقوبات بالفاعلين. وللاعتراف بواقع العداء للسامية في فرنسا، تسابقت كبريات الصحف في تحليل وادانة الجريمة النكراء. ونحن نعرف كيف يتسابق الكتاب على التقاط "الأمر الأهم" و"تشخيص ما يميز" هذه الجريمة الذي فات الجميع ولم يكترث له احد قبل هذا الكاتب. ولذلك يشخص احد الكتاب المشكلة الرئيسية في العشرين مسافرا ويتوسع في ادانتهم لأنهم لم يفعلوا شيئاً ولم يتصلوا بالشرطة، ولم يخطر بباله انه ليس هناك عشرون مسافراً ولا عرب ولا قطار ولا من يحزنون. و"العشرون" طبعا صامتون لا يدافعون عن أنفسهم لأنهم غير قائمين الا في التاريخ الاوروبي الذي يتم استحضاره وتصفية حسابه وضميره على حساب العرب الافتراضيين.

الحزب الشيوعي دعا الى مظاهرة يوم الاربعاء، ودانت كافة المؤسسات والمنظمات الناشطة ضد العنصرية، بما فيها رابطة مسلمي فرنسا الجريمة النكراء. الهجوم وحشي لا شك في ذلك، وكل من كان مهتما بالتعاطف مع العرب وقضاياهم، وكل من يناضل ضد العنصرية الموجهة ضد العرب والمسلمين، وجدها مناسبة ليؤكد موقفه الثابت ضد كافة اشكال العنصرية بما في ذلك العنصرية الموجهة ضد اليهود. ولا بأس، ففعلا اذا هوجم يهودي لأنه يهودي يجب اتخاذ موقف واضح من دون مواربة ومن دون تأتأة ومن دون تحفظات على وزن "ندين... ولكن". الادانة يجب ان تكون قاطعة وواضحة.

ولكن المصيبة ان الهجوم في "قطار الكراهية" كما سمته "لا فيجارو" كان مختلقاً، أي لم يكن. فما العمل بعد أن خرجت كل هذه التصريحات الى فضاء المجتمع والثقافة والسياسة والصحافة؟ ما العمل بعد ان تورط سياسيون كبار بتصريحات غير مبنية حتى على ادعاءات الفتاة ولا تبدأ بعبارات من نوع "اذا صح ما تقوله الفتاة...."؟ الاعتذار على الموقف غير وارد طبعاً، فموقف الإدانة صحيح لو صح ان الجريمة وقعت. وكما لم تعتذر الأم للمسلمين والعرب بشكل عام على هذه الاساءة، كذلك لم يتراجع السياسيون عن حملة لا يجوز طبعا مقارنتها بالكذبة التي قامت على اساسها، ولا يجوز الاعتذار عليها فحملتهم صحيحة مبدئياً، فما العمل مرة أخرى؟

هنا يبدأ جهد مسيء فعلا لتبرير عدم التراجع. فلكي لا يحسبن احد لا سمح الله ان كذب هذه الفتاة يعني ان قصة العداء للسامية في فرنسا مؤلفة من مجموعة أكاذيب يوجه الجهد لخلق اجواء مفادها أن العداء للسامية خطر داهم، وانه لا تراجع عما قيل بغض النظر عن كذب الفتاة، فكذبها مسألة مستقلة يجب ان تعاقب عليها. ويذهب البعض أبعد من ذلك فيتأسف انها كذبت، ولكنه يؤكد جريمة كهذه ممكنة الحدوث. وطبعاً هم ليسوا اغبياء يصدقون اي شيء، وما داموا قد صدقوها فالجريمة ممكنة الحدوث. وما دامت ممكنة الحدوث فلربما وقعت فعلا، وقد يطلب من العرب والمسلمين الاعتذار في النهاية لفتاة وقعت ضحية صورتهم السيئة وكونها قادرة على تخيل أمر فقط لأنه ممكن الوقوع.
لا شك في ان هنالك بقايا عداء للسامية في اوروبا، ولكن نمط العنصرية الاساسي السائد في الغرب هو الموقف من العرب والاسلام والمسلمين، في فرنسا وغيرها. وهنالك علاقة بين كذب الفتاة وبين قضية العنصرية. وكذبها ليس مسألة منفصلة عن مضمون هذا الكذب كما يدعى.

لنعد الى الأم الشابة التي استطاعت عندما اختارت الموضوع الصحيح، كما يستطيع اي شاب او شابة، تحريك دولة، بل دول، لعدة أيام بكذبة بسبب الاعلام والمشهد الاعلامي والاثارة والخبر ومركباته. لو قالت الفتاة مثلاً انه تم الاعتداء عليها (هكذا حاف) أي دون اسلام او مسلمين وعرب ويهود لما زعزعت اركان المجتمع، الذي لم يتزعزع من وحشية الاعتداء كما يبدو بقدر ما اهتم بهويات فاعليه وضحاياه وباسبابه ودوافعه....الخ.
ولو اخذنا في الاعتبار اضافة لذلك ان الفتاة ليست يهودية وان دافعها للكذب لم يكن دافعاً عاماً، سياسياً او اعلامياً، بل كان شخصياً خالصاً، عندها فقط ندرك حجم المصيبة التي حلت بالعرب والمسلمين. فهم مجرد ظاهرة مرافقة لتفريغ غضب مستهلكة محبطة. فقد كان من المفترض ان تشتري الفتاة سيارة من صديق صديقها، ولم تستطع ان تفي بالتزام الاقساط الشهرية فقررت ان تختلق قصة تعرضها لهجوم وسرقة بدل ان تبدو غير جدية امام صديق صديقها. معقول؟! نعم. هذه هي روايتها.

وهي لا تكتفي بكذبة تعرضها لسرقة، مع أن ذلك ممكن الحدوث، فالناس تتعرض للسرقة. ولكي تبدو أكثر اقناعا فإن اول او "اصدق كذبة" تخطر ببالها هي ان تبدو يهودية، ونذكر مرة أخرى بأن الفتاة ليست يهودية، يهاجمها عرب يعتقدون انها يهودية. خيال خصب فعلا. والمصيبة ان العنصرية ضد العرب والمسلمين في هذه الحكاية ليست امراً مركزياً، بل السيارة التي لا تستطيع دفع ثمنها، أو صورتها هي أمام اصدقائها. ولا تهدف الفتاة الى التحريض ضد العرب أو الافتراء عليهم، بل هي تفترض وحشيتهم افتراضاً، كما تفترض ان اليهود في هذا السياق هم الضحية. كما تفترض ان هذا كله سهل التصديق. ولربما افترضت ايضاً ان هذا كله طبيعي الى درجة انه لن يلفت نظر احد. الى هذه الدرجة وصل غسيل الدماغ ضد العرب والمسلمين في الغرب. على كل حال "وقع الحادث"، اي اختلقت الكذبة، في اليوم نفسه الذي نشر فيه التقرير الرسمي الفرنسي عن ازدياد اعمال العنف ضد اليهود في فرنسا في النصف الاول من هذا العام مقارنة بالعام الماضي.

من بين الادانات العديدة لجريمة الاعتداء المفترض برز رد احد النشطاء في المنظمات الصهيونية في فرنسا لم يكفه تجند الجميع في الحملة ضد العداء للسامية، ولم يترك انطباعا لديه خروج الصحافة والسياسة والثقافة في فرنسا ضد "قطار الكراهية" المفترض، فقال: "اخشى انه بعد هذا الاعتداء سوف يتهمنا غير اليهود مرة اخرى بمصائبهم لانه يتم الاعتداء عليهم بافتراض انهم يهود". لقد تورط العرب فعلا، وبالعامية: "شو هالعلقة؟"، من يستطيع التعامل مع هذه التركيبات؟ مصيبة حقيقية.

اما تصريح شارون الذي دعا يهود فرنسا الى الهجرة إلى "اسرائيل" فهو الوحيد الذي لا علاقة له لا بالاعتداء الذي لم يكن، ولا بالكذب، ولا باعتذار الفتاة. اطمئنوا، فهذه كلها امور جانبية بالنسبة لشارون الذي يدعو الى هجرة اليهود الى "اسرائيل" من منطلق ايديولوجي. وقد لا يدرك المعلقون والمحللون أن الرجل ينتمي الى الجيل الصهيوني المؤسس في "اسرائيل" الذي يريد ان يُشعِر كل يهودي في العالم بعقدة ذنب ان لم يهاجر الى "اسرائيل"، انه الجيل الذي لا يرى بالعداء للسامية خطرا بل يراه أمراً طبيعياً، ويعتبر رفاهية اليهود في العالم هي الخطر على "اسرائيل" والصهيونية. ولذلك فإن المفاجأة من تصريحات شارون هي المفاجئة.


*الخليج الإماراتية