من أجل فهم العلاقة بين lt;lt;الدعم الدوليgt;gt; وlt;lt;الشروط السياسيةgt;gt; يتوجب، ربما، استحضار... آلة حاسبة.
قبل أيام وجّه الرئيس الأميركي جورج بوش رسالة إلى مجلس النواب يبلغه فيها أنه lt;lt;يشهدgt;gt; بأن lt;lt;المملكة العربية السعودية تتعاون مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهابgt;gt;. السبب أن النواب، في درسهم لميزانية المساعدات الخارجية البالغة حوالى عشرين مليار دولار توقفوا عند بند غامض يطالب بتخصيص مبلغ للمملكة العربية السعودية قدره 25 ألف دولار. توقفوا عند البند وأوقفوه لأنهم ميّالون إلى اعتبار المملكة مسؤولة جزئياً عن الإرهاب الأصولي العالمي.
أي ان الرئيس تدخل شخصياً للإفراج عن مبلغ يساوي صفر فاصلة صفر، صفر، صفر 125 في المئة من المساعدات (احتمال الخطأ وارد)، أي أن هناك مَن اتخذ قراراً في شأن هذه القروش انطلاقاً من حسابات سياسية. لقد كانت الآلة ضرورية!
نعترف بأن المثال هذا كاريكاتوري شرط أن يعترف آخرون بأنه واقعي وحقيقي. إن هذا ما حصل حقاً. إن مَن يعرف ألف باء السياسة يعرف كيف يتم نقاش المساعدات التي تمنح إلى بلدان، وإلا لن يستطيع أحد إقناع أحد عن lt;lt;سرgt;gt; تخصيص ما بين ربع المساعدات الخارجية الأميركية وثلثها إلى مصر وإسرائيل حصراً علماً أن مستوى الدخل في الثانية هو أوروبي بامتياز!
ننطلق من هذا التفصيل لنصل إلى الموقف الأعم.
المعروف أن الأمم المتحدة قرّرت أنه على الدول المتقدمة تقديم 0,7 في المئة من ناتجها المحلي على شكل مساعدات للدول النامية. المعروف، ثانياً، أن دولاً قليلة تلتزم هذه النسبة أو تقترب منها (الشمال الأوروبي). والمعروف ثالثاً أن الولايات المتحدة هي الدولة الأشد بخلاً في هذا المجال. ولكن ما هو ليس معروفاً كفاية هو أن جون بولتون، نفسه، حاول عشية القمة العالمية في نيويورك شطب هذا البند المحدد من أهداف الألفية. فالسيد بولتون لا يريد للمجتمع الدولي أن يكبّل يديّ أميركا. والأهم من ذلك أن القليل الذي lt;lt;توزعهgt;gt; الولايات المتحدة يخضع لنوعين من الشروط. الشروط من النوع الأول سياسية بالتأكيد. الشروط من النوع الثاني إيديولوجية. وكمثال على الشروط الإيديولوجية فإن واشنطن تتردد في منح مساعدات لمكافحة آثار lt;lt;الإيدزgt;gt; في أفريقيا وتفضل أن تذهب الأموال إلى مؤسسات تبشيرية تدعو إلى جعل lt;lt;الامتناع الجنسيgt;gt; العلاج الأول. وفي انتظار ذلك يموت مئات الآلاف في القارة السمراء أو ينضمون إلى قافلة المهددين بالموت!
يُراد لنا، في لبنان، أن نصدق أن lt;lt;الدعم الدوليgt;gt; الممنوح للبلد أو المنوي منحه بريء للغاية من أي lt;lt;شروط سياسيةgt;gt;. أي، بكلام آخر، يُراد لنا أن نكون أطفالاً، مجرد أطفال.
لا يمكن تقديم اسم بلد واحد أوحى صندوق النقد الدولي بمساعدته من غير وضع دفتر شروط عليه. هذه وظيفة الصندوق وعلة وجوده. صحيح أنه لم يعد أميناً للأهداف الأصلية التي أنشئ
من أجلها بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن الأصح هو أنه يضع شروطاً هي كناية عن lt;lt;وصفة جاهزةgt;gt;. وإذا استعدنا السجال اللبناني الحالي عن تعطيل باريس 2، والقول إن ذلك يعرقل طلب مساعدة جديدة، وان هناك مَن عرقل تنفيذ إصلاحات موعودة، فإننا سنكون مباشرة أمام الحقيقة القائلة بأن بيروت لم تلبّ شروطاً التزمت بها. قد تكون هذه الشروط مصلحة وطنية مئة في المئة. وقد تكون نتيجة توجه داخلي. إلا أن هذا غير منفصل إطلاقاً عن أنها شروط تعانق وجهة عامة كونية تعتبر أن لا معنى لكلمة lt;lt;إصلاحgt;gt; خارج ما يسمى بlt;lt;توافق واشنطنgt;gt; النيو ليبرالي.
قد لا نجد أحداً في لبنان يجادل بأن المساعدة الاقتصادية مرهونة بشروط اقتصادية. إلا أننا سنكون وحدنا في العالم مَن يعتبر أن الشروط الاقتصادية ليست في جوهرها شروطاً سياسية لأنها تحدّد المضمون المطلوب للتوجه الاجتماعي لسلطة ما. هذه هي السياسة بالدرجة الأولى. غير أن نخبنا تقيم فصلاً متمادياً بين lt;lt;السياسةgt;gt; وlt;lt;الاقتصادgt;gt; وlt;lt;الأمنgt;gt; وlt;lt;الثقافةgt;gt; بحيث يمكنها الزعم أن الخصخصة، مثلاً، هي خيار اقتصادي لا دخل له بالسياسة!
نعم ثمة شروط لمساعدة لبنان. أما التركيز على احتمال الدعم غير المشروط فهو، ببساطة، التخلف بعينه. إنه تعمية عن رؤية العالم كما هو والدول وسياساتها ومصالحها واستخدامها كل الأدوات المتاحة من أجل تغليب وجهة نظرها. هذا وعي بائس لا يفعل سوى تخدير اللبنانيين ومساعدتهم على استمرار العيش في أوهامهم بانتظار المعجزة الآتية بلا ريب. وهناك مَن يحاول بيعنا أن أي دعم هو فريضة أو ضريبة يدفعها لنا العالم لقاء إعجابه بنا، وافتتانه بالاستثناء اللبناني، وتقديره لبلد الرسالة والحضارة والحوار وما إلى ذلك من ترهات.
إن الدعم غير المشروط القادم من الخارج هو، بالمعنى النفسي للكلمة، الوجه الآخر لخرافة lt;lt;حروب الآخرين على أرضناgt;gt;: بما أن هناك مَن تحارَب هنا فلا بد أن يجري تعويض الأضرار وكأنه تكفير عن اصطدام طارئ لم يكن لنا ذنب فيه. ولا ينتبه دعاة lt;lt;الدعم غير المشروطgt;gt; إلى أن دعوتهم تعفي اللبنانيين من الواجبات، وتكرّس الكسل، وتلغي أي أساس لحوار مطلوب حول ما يتوجب علينا فعله. بكلام آخر إنهم يرفضون من الأساس وجود احتمال لمعادلة أن lt;lt;الشروطgt;gt; هي، بالضبط، lt;lt;الواجباتgt;gt; المطلوبة منا.
في عالم الملائكة الذي تفترضه نظرية lt;lt;الدعم غير المشروطgt;gt; لا نعود نفهم سياسات تمارَس علينا وأمام أعيننا. هل بات دعم الجيش اللبناني والمؤسسات الأمنية ممكناً بلا سبب؟ هل المتابعة شبه اليومية للبنان في مجلس الأمن بريئة تماماً؟ أليس التدخل للدفع نحو وجهة معينة هو السياسة الرسمية المعلنة لدول كبرى؟ ألا توجد ميزانيات جدية في إطار مبادرة الشراكة الأميركية المتوسطية وغيرها؟ ألا تقدم وزارة الخارجية
الأميركية تقريراً سنوياً عن الإنفاق الداعم لأهداف تضعها الإدارة؟ إلخ...
يستحسن الخروج من الثنائية القائلة: هذا دعم غير مشروط أو هذا دعم مشروط ونحن نرفضه.
إن كل دعم مشروط وخاضع لحسابات سياسية بعضها يعلن عن نفسه مباشرة وبعضها مداورة. وليس المطلوب أكثر من دراسة الدعم وشروطه، والانتقاء، والتمييز بين المقبول والمرفوض. إن الاستنسابية، هنا، هي السلوك الأفضل في هذا الوضع اللبناني الخاص وفي هذا العالم القائم على الاعتماد المتبادل.
في انتظار التوصل إلى ذلك، وشرطه توافق لبناني ما زال مفقوداً، لا ضرورة لاستعادة الخطاب السابق عن العون المشكور والبعيد عن كل غاية. إن تنزيه الدعم عن أي رغبة في ممارسة نوع من الوصاية هو بداية الخضوع لهذه الوصاية!