عاصفة أحمد زكي يماني

نشرت جريدة "المدينة" السعوديةبتاريخ 29 أبريل 2005 مقالاً بعنوان: " البابا ومكتبة الفاتيكان"
للدكتورأحمد زكي يماني وزير البترول والثروة المعدنية، السعودي، الأسبق تطرق فيه الى قضية "تمسّ" القرآن.

وقد أثار المقال عاصفة من ردود الأفعال والجدل الذي لم يكد ينتهي برغم اعلان يماني الصريح، في رد له:

( من قال إن المصحف الذي بين أيدينا ناقص فقد كفر)..وهي المسألة التي أخذها عليه منتقدوه ومهاجموه في مقاله.

قسم "جريدة الجرائد" يقدم، هنا، المقال موضوع النقاش مرفقاً بجملة من الردود الغاضبة أو المتعاطفة معه.

أحمد زكي يماني في سطور:

ولد في مكة المكرمة, 1930 م، المملكة العربية السعودية

المؤهلات العلمية:

جامعة القاهرة، جمهورية مصر العربية، ليسانس الحقوق القاهرة.( دراسات عليا في القانون 1952).

جامعة نيويورك دراسات عليا في القانون ، نيويورك.

جامعة هارفرد ، كلية الحقوق ، كامبريدج، ماساتشيوستس.

الخبرات العملية:

1957، المستشار القانوني لمجلس الوزراء السعودي.

1960، وزير دولة و عضو مجلس الوزراء السعودي

1962- 1986 وزيرا للبترول و الثروة المعدنية.

أول أمين عام لمنظمة الدول المصدرة للنفط,أوبك (OPEC).

وضع العديد من القوانين و الأنظمة الحالية في المملكة العربية السعودية.

* * *

المقال:


من جعبة الذاكرة - البابا ومكتبة الفاتيكان

الشيخ أحمد زكي يماني

الآن وقد رحل بابا الفاتيكان إلى جوار ربه، عادت بي الذاكرة الى النصف الثاني من الثمانينيات الميلادية في القرن الماضي، حيث اجتمعت به اجتماعا مطولا لا أنوى الدخول في تفصيلات ما جرى خلاله، ولكن القليل مما أحاط بالمقابلة وأسبابها وما تمّ بعدها يعدّ من الأمور التي لا أجد حرجا أو مبررا لإخفائها وإبقائها طيّ الكتمان.

ومما دفعني لطرق باب الفاتيكان حقيقة معروفة وهي أن الكاثوليك عندما نجحوا في طرد العرب المسلمين من أسبانيا، استولوا على آلاف المخطوطات والوثائق التي تركوها خلفهم، ولم تكن تعني للمحاربين الكاثوليك شيئاً فأرسلوها إلى بابا الفاتيكان.

ونظراً لولعي الشديد بالمخطوطات الإسلامية بلغاتها المختلفة، ومعظمها بالعربية، فقد شددت الرحال إلى روما لزيارة مكتبة الفاتيكان التي تحتوي على تلك الذخائر الفريدة والنادرة. والمكتبة المذكورة تنقسم لثلاثة أقسام، العامة التي يرتادها من أراد، والخاصة وهي التي تحتوي على تلك المخطوطات ويرتادها الخاصة من المهتمين أو الباحثين، وقسم ثالث يسمونه كنوز الفاتيكان يحتوي على أكثر الوثائق ندرة وأهمية ولا تفتح أبوابه إلاّ لمن حظي بإذن خاص من أعلى المراجع. وحصلت على ذلك الأذن وعلى زيارة خاصة للبابا في مكتبه، واستمرت الزيارة ساعة وخمسا وعشرين دقيقة، كما قالت إحدى الصحف الإيطالية، اكتشفت فيها عمق إلمام الرجل بأحوال العالم ومشكلاته، ومعرفته مثلاً بأعداد العمالة الكاثوليك بالمملكة وأغلبهم من الفلبين. ولست في مقالي هذا راغباً في ذكر ما جرى خلال تلك المقابلة ولكن ما جرى بنهايتها يستحق الذكر لطرافته، ولا أجد غضاضة في ذكره. لقد أحضرت معي لتلك الزيارة شيئاً من الهدايا كان التمر أهمها إذ كان عيد ميلاد المسيح عليه السلام ليس ببيعد. وقد أخبروا البابا أني أحضرت له بعض الهدايا، وهي موجودة خارج المكتب، فخرج معي حيث كانت الهدايا، مجاملة منه وامتناناً. وقلت له اني أحضرت التمر لأني أعلم أن من عادات المسيحيين أكل التمر يوم الميلاد، فأجاب نعم كلنا نفعل ذلك، فسألته ما هو الأساس الديني لتلك العادة؟ فنفى أن يكون لتلك العادة أي أساس ديني. فقلت له الأساس لدينا نحن المسلمين، في كتاب الله. وقرأت له آية ''فأجأها المخاض إلى جذع النخلة'' إلى آخر الآية - مترجماً معانيها، وأن الرطب الجني الذي أكَلتْهُ مريم العذراء صاحَبَ الولادة، فإذا البابا وقد بدا عليه الامتعاض، آثر السكوت، فأردفت، وما دام الأمر كذلك فإن الخامس والعشرين من ديسمبر وقت يتعذر فيه وجود رطب جني في أرض فلسطين، شديدة البرودة ذلك الوقت من السنة. فأجاب باقتضاب، تاريخ الولادة اتخذناه في روما دون تحقق، وهو لذلك رمزي غير دقيق. وتركت البابا شاكراً حسن استقباله.

وفي صباح اليوم التالي أتى إلى الفندق الذي أقمت فيه أحد كبار الكرادلة مرسلاً من البابا، واجتاحت الفندق موجة من الاهتمام لقدومه، ولما واجهته أخبرني أن الحبر الأعظم أرسله ليشعرني أنه وجد الأساس الديني لأكل التمر، فأجبته مظهراً الفرح والسرور، أنا وجدنا أمراً يشترك فيه المسلمون مع المسيحيين!! وأعود إلى المكتبة النفيسة التي كانت هدفي ومقصد رحلتي. لم أزر القسم العام وبقيت في القسم الخاص سبع ساعات ونصف أتجول بين رفوفها حيث تقبع المخطوطات الإسلامية. ومرةً أخرى لست هنا بصدد ذكر ما رأيت وسرد ما قرأت. ولكن مخطوطة واحدة استرعت انتباهي وتستحق الإشارة إليها. كانت المخطوطة في حال يرثى لها فقدت الصفحات الأولى منها، ولكن آخر صفحة بها تذكر أن مؤلفها قد أكمل كتابتها في المائة الثانية من الهجـرة. وتنقسم المخطوطة إلى ثلاثة فصول، الأول في فقه العبادات كالطهارة والصلاة، ولم تكن المذاهب الفقهية الأربعة قد ظهرت، والقسم الثاني يتعلق بعلم الفلك ودورة الشمس والقمر. وكان ذلك القسم يدل على اهتمام العرب والمسلمين بذلك العلم دون التوصل آنذاك إلى مرتبة الإجادة والتعمق، والقسم الثالث يبحث في شد أوتار الآلات الموسيقية. وحمدت الله أن المخطوطة غير معروفة عندنا ومؤلفهـا مجهول لتلف الصفحة الأولى التي تحوي اسم المؤلف عادة، حتى لا تنطلق بعض الأصوات تصب على رأس المؤلف اللعنة، فعلوم الفلك غير معترف بها الآن رغم أنها وصلت مرحلة الدقة المتناهية وبلغت حد العلم القطعي، وذلك ما نسميه علم الفضاء. والطامة الكبرى أن المؤلف يبحث في شد الأوتار لآلات الموسيقى وهي كما يقول ذلك البعض محرّمة قطعاً وبالاجماع.

ولن يغفر لذلك المؤلف المجهول أنه كان فقيهاً متمكناً يذكر الأحكام بأدلتها من الكتاب والسنة فجريمته في التصدي لعلم الفلك وللموسيقى من الجرائم التي لا تغتفر. ومن طريف ما رأيت قطعاً من الجلد كُتبَ عليها آيات من القرآن بحروف غير منقطة وقيل انه أُجريت دراسات علمية لمعرفة عمر الجلد الذي كُتبت عليه الآيات فتجاوز عمره مائتين وخمسين وألف سنة ميلادية وهذا ما قادهم إلى افتراض أن بعض كُتاب الوحي من بني أُمية لم يسلموا ما لديهم أو بعضه من آيات الكتاب الحكيم عندما جُمع المصحف في عهد الصديق رضي الله عنه وأُتلفت جميع الآيات المتفرقة التي نزلت منجمة، وأنه عندما دالت دولة الأمويين في الشام وهرب عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس حيث أقام دولة الأمويين استطاع فيما بعد نقل الذخائر ومنها تلك القطع التي كُتب عليها آيات من القرآن أثناء نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الافتراض مع كل قرائنه يقرب من الصحة وينبئنا أن المسلمين إذا تفككوا واختلفوا فقدوا الكثير من تراثهم بل وفقدوا كيانهم، وذلك حال ملوك الطوائف فيما مضى وهو حال دويلات الطوائف في عصرنا هذا. وآيات الكتاب الكريم التي كُتبت في حضرة رسولنا عليه السـلام هي من أعز وأثمن ما أعرف من التراث.

*************************************

الردود:

1

حمد بن عبد الله القاضي:

إلا القرآن يا سيد يماني..!!
الجزيرة السعودية ( أرشيف جريدة الجرائد)

لم أصدق عينيّ بل ظننت أن عليهما غشاوة وأنا أقرأ فرية السيد أحمد زكي يماني على قرآننا العظيم عندما رماه بالنقص وعدم الاكتمال، تعالى كلام الله عما يقول ويزعمه!.
لقد قرأت نص ما كتبه في رد وتفنيد الأستاذ الكاتب الغيور عبد الله عمر خياط في (فجره) المشرق عندما كتب السبت الماضي في صحيفة (عكاظ) مفنداً ما رمى به أ. يماني القرآن الكريم من تهمة النقص، وعدم الاكتمال!!.


لقد جاء في كلام أ. يماني من خلال ما نقله أ. خياط بالنص من كلامه: (رأيت قِطَعاً من الجِلْد كُتب عليها آيات من القرآن بحروف غير مُنقَّطة وقيل إنه أجريت دراسات علمية لمعرفة عُمْرِ الجِلْد الذي كتبت عليه الآيات فتجاوز عمره مائتين وخمسين وألف سنة ميلادية وهذا ما قادهم إلى افتراض أن بعض كُتَّاب الوحي من بني أمية لم يسلِّموا ما لديهم أو بعضه من آيات القرآن الحكيم عندما جُمع المصحف في عهد الصديق - رضي الله عنه - وأتلفت جميع الآيات المتفرقة التي نزلت منجمة، وأنه عندما زالت دولة الأمويين في الشام وهرب عبدالرحمن الداخل إلى الأندلس حيث أقام دولة الأمويين استطاع فيما بعد نقل الذخائر ومنها تلك القطع التي كتبت عليها آيات من القرآن أثناء نزول الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا الافتراض مع كل قرائنه يقرب من الصحة..). أ. هـ.
كيف لواحد منا أن يتصور أن رجلاً من بلاد الحرمين الشريفين يرمي هذا الإفك العظيم وهو في متنزل الوحي ولا يبلغ الألم ما يبلغ في نفسه ووجدانه؟


لا ندري ما الذي يرمي إليه السيد أحمد زكي يماني بمثل هذه الفرية على القرآن العظيم التي نقلها وأيدها ولكن حسبنا أن من نزَّل القرآن هو حافظُه من النقص والعبث والضياع.
هل يريد مزيداً من الأضواء بعد أن انحسرت عنه الأضواء؟ ولكن بئست أضواء تأتي على حساب رمي كتاب الله بهذا الزعم!.
* * *


لو تحدث أ. يماني عن (البترول) لما حرك من ريشة أقلامنا وخفق قلوبنا شيئا رغم أن أبسط راصد أدرك أن تخرصاته وتحليلاته وتوقعاته عن النفط لم يصدق منها شيء بل كذبها صعود (برميل النفط) إلى مستويات عالية جداً وكان أ. يماني في تحليلاته يؤكد أن النفط سوف ينخفض إلى أقل مستوى سعري ولكن أخلف الله ظنه وارتفع السعر إلى أعلى مستوى!.
ومع كل هذا فعلى السيد اليماني أن يكتب بالشأن النفطي ما يريد!.
أما أن يمس هذا القرآن فهذا لن نسكت عنه ولن يقبله أي مسلم في حق كتاب الله الذي حفظه الله من فوق سبع سموات!.
لا أعتقد أن أ. أحمد يماني لا يعرف - وأي مسلم يعرف ذلك - أن القرآن الكريم قرئ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة كاملة في آخر حياته ثم في عهد الخليفة (أبي بكر) تم جمعه في صحف من حفاظه وتسلمه الخليفة عمر منه كاملاً غير منقوص ثم في عهد الخليفة عثمان بن عفان تم توحيد هذه الصحف وهذا القرآن في (مصحف عثمان) الذي هو مرجعية كل ما نسخ وطبع من القرآن الكريم إلى يومنا الحاضر، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.


ترى كيف يجرؤ أ. أحمد زكي يماني على نقل هذا الافتراض بل يصفه بأنه (قريب من الصحة) وأية صحة - كما قال أ. خياط -؟!
وأجزم أن السيد أحمد زكي يماني يعرف قبل غيره أن عثمان بن عفان الخليفة الراشد ذا النورين وهو أموي هو الذي جمع القرآن الكريم الجَمْعة الأخيرة التي تمثلت في المصحف الإمام الذي وزعت نسخه على الأمصار ليكون هو المرجع فكيف يتصور أن يُخفي كُتَّاب الوحي من بني أمية ما لديهم عن سيدهم عثمان وهو يدين لله بأن المصحف الإمام هو الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين؟
ثم إن عبد الرحمن الداخل الذي مكن الله له ولذريته في الاندلس لو كان ما ذكر من وجود آيات غير ما في المصحف الإمام، لو كان ذلك صحيحاً لماذا لم يبح بها ويأمر بإشهارها؟!
* * *


أما قبل
فالقرآن صخرة تتكسر دونها كل أقلام وافك وادعاءات كل من أراد أن يمسه أو يشكك فيه أو يتهمه بنقص، وكم رأينا بالتاريخ من تلك الانهزامات والخيبات التي طالت كلّ من أراد أن يمسّ كتابنا المقدس.
وصدق الله وكفى؛ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(سورة الحجر - الآية 9).
لكن ما يؤلمنا - مرة أخرى - أن يأتي أحد من بني جلدتنا ويتطاول على قرآننا، أما القرآن فهو محفوظ بحروفه وآياته وسوره بحفظ منزله إلى يوم الدين!.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور عيوننا وباعث طمأنينتنا ومركز قوتنا واحفظنا اللهم بحفظ كتابك الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

*************************************

2

د. رضوان السيد:

اليماني والنصّ القرآني
صحيفة الاتحاد( أرشيف جريدة الجرائد)

لا أعرف للشيخ أحمد زكي اليماني دراساتٍ في القرآن الكريم، نصاً أو تاريخاً. فقد كان الرجل كما هو معروف وزيراً للبترول بالمملكة العربية السعودية لمدةٍ طويلة، ثم عندما خرج من الوزارة انصرف لإدارة ثروته الكبيرة، وأظهر اهتماماً محموداً بالشؤون الثقافية والعامة؛ فأنشأ مؤسسة الفُرقان بلندن، ودعم كراسيَ وبرامجَ للدراسات العربية والإسلامية ببعض الجامعات الغربية. وقد استمعتُ في التسعينيات لمحاضرتين له عن الإسلام والديمقراطية، كما قرآْتُ مداخلاتٍ له في بعض المؤتمرات عن تطورات أسواق النفط والمال، والسياسات الغربية– والأميركية على الخصوص– تجاه المنطقة العربية، والعالم الإسلامي. وما استمعتُ إليه منه أو قرأتُهُ له في الشأن السياسي والاقتصادي ينمُّ عن معرفةٍ واطّلاعٍ لا بأسَ بهما، وهما غير مستغرَبين من رجلٍ يُعايشُ الشأن العامّ، ويشارك في الرأي أو القرار السياسي والاقتصادي منذ أكثر من أربعة عقود. أما ثقافتُهُ العربيةُ والإسلامية- وحكمي يستند دائماً إلى القليل الذي سمعتُهُ منه أو قرأتُهُ له– فليست عميقةً ولا تنمُّ عن اطّلاعٍ واسعٍ يسمحُ ببلوغ درجة "الاجتهاد" في التفسير الآخَر للتاريخ الإسلامي، أو تأويل النصوص، واستنباط الأحكام. وقد كنتُ أعجبُ- وما أزال- ولديه كما لدى آخرين كثيرين من رجال الشأن العامّ العرب، ممن يملكون دعوى ثقافية- لضآلة معرفتهم باللغة العربية، وكثرة أخطائهم في قراءة نصوصِها، والتحدث بفُصحاها، وأهوال سقطاتهم في نحوها وصرفها وبلاغتها؛ فكيف يستطيعون قراءة النصوص القديمة، والوصول إلى تأويلاتٍ جديدةٍ فيها؟

وعلى أي حال، فإنّ تنويرية الشيخ اليماني، وتأويلياته الإسلامية ما خرجتْ في ما سمعتُ وقرأتُ عن حدود التفاصُح والدعوى، وإشعار السامعين أو القارئين، أنه صاحبُ رأيٍ ومذهب في الشأن الثقافي العربي والإسلامي، ودليلُهُ على ذلك أنه تولّى الوزارة، وجمع ثروةً طائلة؛ فمن حقّه على العرب والعجم( أعني الغربيين) أن يؤمنوا بتفوُّقه في المجالين الثقافي والديني، كما برز وتفوق في المجالين الإداري والمالي! وما كان ذلك مزعجاً لي، بعد أن خبرتُ الأَمْرَ نفَسَهُ لدى العديدين من الأثرياء العرب، الذين يُبْعَدُون عن العمل العامّ المباشر، وقد كانوا فيه ملكَ السمع والبصر، فيستعيضون عنه أو يحاولون، ببدائع السَمَر، و"الكشوف" العلمية والتاريخية الشديدة الهَول والإغراب.

قدّمْتُ بهذه المقدّمة الطويلة، لأقول، إنني كنتُ مخطئاً تماماً، في التسامُح إزاءَ شطحات أثريائنا الثقافية والدينية؛ حتى وإن كانوا متميزين في مجال تخصصهم واهتماماتهم الأصلية، مثلما هو الحال مع الشيخ أحمد زكي اليماني. فقد ذهب الرجل في مقالةٍ كتبها قبل عشرة أيامٍ– بين أمورٍ كثيرة- إلى أنّه اكتشف في المكتبة"السرية" للفاتيكان( نعم: السرية أو الخاصة جداً!) صحفاً أو رقوقاً تتضمن آياتٍ من القرآن، ليست في المصحف الإمام الذي أمر بجمعه أمير المؤمنين عثمان (والشيخ اليماني يتحدث عن جمع أبي بكر). وقد قدّر الشيخ اليماني، ويا لَهول ما قَدَر(!) أنّ تلك الصحف احتفظ بها سراً خارجَ المصحف بعض أُمراء بني أمية، وأورثوها لعبد الرحمن الداخل، الذي ذهب بها معه إلى الأندلس ومن هناك وصلت في القرون التالية إلى الفاتيكان!

لا أُريد في هذا المعرض، مناقشة المسائل الأُخرى التي ذكرها اليماني عن علاقته بالبابا الأسبق، وكيف صحَّح له فهمه لأكل التمر، وصلة ذلك بالرُطَب الذي تساقط على السيدة مريم أثناء الولادة...الخ. فذلك كلُّه يدخل في باب التعاظُم لدى أثريائنا الأجلاّء ... ومن قصُر باعه وذراعه يصلُهُ "بشرطوطة" (قطعة قماش)، كما يقول الريفيون اللبنانيون! أمّا مسألةُ القرآن، فلا يجوزُ السكوتُ عليها، لا بسبب فظاعتها من الناحية الدينية وحسْب؛ بل ولأنها غاصّةٌ بالأخطاء والخطايا التاريخية والعقلية، ولا يصلُ إلى درْكَها إلاّ من ترك عقله وراءه ظهرياً.

فالرواية الإسلامية المعتمدة أنّ جمع القرآن تراوح بين عهدي أبي بكرٍ وعثمان: في عهد أبي بكرٍ جمُعت العُسُب واللخافُ والأكتافُ والرقوق في بيت حفصة بنت عمر زوج النبي(ص). وفي عهد عثمان أُخذت تلك (المجموعة)، وقورنت بما عند المسلمين حفظاً وكتابة، ودُوّنت في (المصحف)، الذي كُتبت منه عدةُ نُسَخٍ أُرسلتْ للأمصار. وما كان للأُمويين دَخْلٌ في ذلك. وقد اتُّهم الأُمويون بشتى التُهَم الصحيحة والمخطئة، وما كان من بينها إخفاءُ شيء من القرآن، وكيف يكونُ لهم ذلك، وقد جُمع القرآن وجرى تداوُلُهُ كاملاً ومكتوباً قبل عهدهم وسلطتهم بزمنٍ طويل. ثم إنهم عندما وصلوا للسلطة قادوا حملةً ضدَّ الذين اتهموهم بالاحتفاظ بنُسَخِهِمْ الخاصّة من القرآن، من تلامذة عبد الله بن مسعود؛ إذ كانوا يعتبرون عثمان شيخهم ومرجعهم الأول وأصل شرعيتهم. وإذا جاز لمستشرقٍ أن يقول إنّ أبا بكرٍ أو عثمان أخفى شيئاً من القرآن، لأنّ فيه ذكراً لفضائل علي وأهل البيت مثلاً، فكيف يوافقُ عليٌّ على ذلك، وقد شهد جمع عثمان، كما حكم بعد عثمان، واتخذ من مصحف عثمان مصحفاً له، وما نزالُ نعرفُ من كتب علوم القرآن أن مصحف عليٍ كان يختلف في ترتيب بعض سُوَر القرآن الوسطى والقصيرة؛ لكنّ علياً رأى أن ترتيب المصحف العثماني أصحُّ من ترتيبه، وهو الموروثُ بإجماع الصحابة عن رسول الله(ص).

أما الأسطورةُ الأُخرى عن مكتبة الفاتيكان السرية، فلا أساسَ لها أيضاً. فالمخطوطات العربية والقرآنية بالفاتيكان صدرت لها فهارسُ علميةُ تضمنتها كلها منذ قرنٍ ونيف، وقد كانت هناك مئاتٌ من الردود المتبادلة والجدالات الفظيعة بين المسلمين والمسيحيين في العصور الوسطى والحديثة، فلو كانت هناك- جدلاً– ورقاتٌ سرية تتضمن آياتٍ ليست في المصحف العثماني لسارع المجادلون المسيحيون إلى استعمالها ضد القرآن والمسلمين؛ وبخاصةٍ أنّ القرآن ثم كتب الردود الإسلامية ( المسمَّاة: الردّ على النصارى) تتهم هؤلاء منذ القرن الثالث الهجري بتحريف الإنجيل، وبالتزيُّد فيه، أو الإنقاص منه!

وما نجا القرآنُ من الاستشراقين القديم والجديد. في الاستشراق القديم بحث المعنيون بالدراسات القرآنية في الأصول اليهودية والمسيحية للقرآن. ووصل الأمر ببعضهم لتتبُّع القرآن أيةً أيةً، وتحديد النص أو القصة أو الحكم الذي أَخَذَ منه النبي(ص) هذا الأمر أو ذاك. حتى إذا لم يجدوا موطناً في النصوص المسيحية واليهودية الرسمية يمكن الإرجاع إليه، قالوا إنّ ما في القرآن مأخوذٌ عن التراث الشعبي اليهودي أو المسيحي. وإذا وجدوا أنّ هذه القصة أو تلك في القرآن تخالفُ ما في نصوصهم القانونية قالوا إنّ محمداً أخطأ في فهم النصّ الذي نقل عنه ربما لاعتماده على روايةٍ شفويةٍ أو لأن الذين أخبروه أو ترجموا له خدعوه! أمّا الاستشراق المعاصر فقد بذل جَهداً كبيراً في العقود الثلاثة الماضية في تدمير تاريخية القرآن. البعض قال إنّ النبيَّ وأصحابه تركوا قِطَعاً من القرآن، عانى العباسيون لجمعها بعد مائةٍ وخمسين عاماً على وفاة النبي. والبعض الآخر عاد لإرجاع القرآن كلِّه إلى أُصولٍ سريانيةٍ وآرامية جُمعت ونُظّمت وحُذف منها وأُضيف إليها عبر القرنين الأولين للإسلام!

ولستُ أقصِدُ من وراء التطرق للاستشراق اتهام الشيخ اليماني بأنه متأثرٌ به، أو أنّ المستشرقين هؤلاء سيتخذون كلامه حجةً لتصعيد الحملة على القرآن- فاليماني لا يصلح حجةً في هذا المجال معنا أو علينا. بل ذكرتُ أقوالَ وآراء ضِعاف الدارسين هؤلاء لأُذكّرهُ بأن مباحث القِدَم والأصالة والاكتمال ظلت الشغل الشاغلَ للدراسات (العلمية والنقدية!) طوال قرنٍ ونصف، ما خطر ببال أحدٍ من هؤلاء ما خَطَر لليماني؛ إذ لو كان أقلّ ذلك صحيحاً أو معقولاً أو تاريخياً، لانتهى القرآن منذ زمنٍ طويلٍ، تحت وطأة الإضافات والمحذوفات؛ وبخاصةٍ أنّ المسلمين أنقسموا بسبب الصراع السياسي منذ الصدر الأول، ولو لم يكن الإجماعُ على القرآن سابقاً على الانقسام، لما أمكن الاتفاقُ على (قانونيته) لا أيام بني أمية، ولا أيام بني العباس!

لستُ أخشى على القرآن من عجائب الشيخ اليماني، وتخرصات الأثرياء العرب. لكنّ ما قاله هَذَرٌ وسخرية سوداء في زمن الجدّ والأزمة والسحق، من القبض على الحجر. وكنا ننتظر من اليماني وأمثاله آراء وتوجهات في الثروة النفطية واستراتيجيات أحوالها، وفي إصلاح الشأن العامّ، إلا إذا كان يعتقد أنه حلَّ كلَّ المشاكل السياسية والاقتصادية، ما بقي عليه غير تصحيح تاريخ النصّ القرآني: يا أمةً ضحكت من جهلها الأُمَمُ!

عنوان المقال كاملاً: أحمد زكي اليماني والنصّ القرآني

*************************************

3

عبد الرحمن الخطيب:

قبل أن نفتري .. علينا أن نقرأ ونطلع !!

صحيفة "المدينة"


من فضائل الغرب على الشعوب العربية أنهم أوصلوا لنا اختراع (الإنترنت)، حيث تمكنت الجاليات العربية التي تعيش في الغرب من أن تتطلع على ما يدور من أخبار محلية في البلاد العربية. وبالمصادفة قرأت المقالين اللذين نشرتهما صحيفة عكاظ بتاريخ 4-5/6/2004م للكاتب عبد الله خياط بعنوان (القرآن الكريم وأوهام أحمد زكي يماني) هاجم فيهما الشيخ أحمد زكي يماني رداً على ما نشره في صحيفة المدينة بتاريخ 29/4/2005م بعنوان (من جعبة الذاكرة- البابا ومكتبة الفاتيكان).

وعندما رجعت إلى أرشيف صحيفة المدينة في الإنترنت وقرأت ما كتبه الشيخ يماني استغربت الأمر، وخاصة أن الرد جاء بعد 40 يوما من تاريخ نشر المقال فيها، ولكن هذا الأمر علله خياط بقوله بأنه كان مسافراً، وبأن بعض الأصدقاء لفتوا نظره إلى المقال، وكأنه يقول: إن الشخص بحد ذاته مرصود ومقصود. وإلا فما الذي يدعو أشخاصاً ليتذكروا مقالاً كتب في صحيفة قبل 40 يوماً. فاتصلت بصديق لي يعيش في مكة المكرمة أستعلم عن الموضوع، فأخبرني بأن الكاتب عبد الله خياط اعتاد مهاجمة يماني كل حين، بل زاد أن بعض معارف الطرفين استغربوا توقف الكاتب خياط عن مهاجمة الشيخ يماني مدة طويلة، ظناً منهم بأنه ربما رجع إلى نفسه وأحس بأخطائه في تتبع زلات الآخرين.

ولكن الشيء المهم الذي استوقفني في مقال خياط قوله: '' بينما من المعروف لدى العامة والخاصة أن رجال الكنيسة ناهيك عن الحبر الأعظم والكرادلة يحفظون القرآن الكريم عن ظهر قلب، بل ويعرفون حق المعرفة كل ما قيل في تفسيره ومدلولاته''. هناك مثل عامي عند أهل الشام يقول: (عاقل يتكلم، ومجنون يسمع) أي أن هذا الكلام لا يستوعبه المجانين فما بال العُقّل. وأريد أن أتساءل: كم عدد العلماء المسلمين، في هذه الآونـة، الذين يحفظون القرآن كاملاً عن ظهر قلب ؟ وليعلم الكاتب أن كبار نيافاتهم وقساوستهم لا يحفظون ربع الإنجيل عن ظهر قلب، فهل يُعقل أن يهملوا أناجيلهم ليحفظوا القرآن الكريم كله عن ظهر قلب؟ عندما سُئل الشيخ ديدات ما سبب تفوقك (الكاريزمي) على القس سوجارت في المناظرة الشهيرة، قال: حفظت الإنجيل عن ظهر قلب وهو ولم يحفظه. وقد أهديت يوما كتاباً من مؤلفاتي (أذود فيه عن القرآن الكريم، وأوردت فيه قضية ارتباط الديانة النصرانية بشجرة النخيل) إلى قس إسباني يحمل شهادة الدكتوراه في الدراسات (الإكليريكية)، فقال لي بالحرف: أشكرك كثيراً لأنني وجدت فيه الكثير مما أجهله حول هذا الموضوع.

القضية الأخرى التي لفتت نظري هي التشكيك بعقيدة الشيخ يماني في قول خياط: (ان ما ذكره الشيخ يماني من أن بني أمية لم يسلموا ما لديهم أو بعضه من آيات الكتاب الحكيم عندما جُمع المصحف في عهد أبي بكر رضي الله عنه وكأنه بهذا يشايع الذين يفترون على الله الكذب ويدعون بنقص بعض آيات القرآن). فاتصلت مرة أخرى بصديقي في مكة مما جعله يقول لي: ''سبحان من خلانا نسمع صوتك مرتين خلال يوم واحد''، وسألته هل الشيخ يماني هو ممن تسمونهم عندكم (الحداثيون) ؟ أجاب: معاذ الله فهو شخص ملتزم سليل بيت علم، أباً عن جدّ؛ وأضاف أنه درس في المسجد الحرام، وحفظ بعض أجزاء من القرآن عن ظهر قلب، ولا يفتأ يقرأه ويجوّده صباح مساء، ولكن التشكيك في العقائد والتكفير (موضة) عندنا منذ مدة طويلة. وإني هنا لا أدافع عن الشيخ يماني، فلا نزكي على الله أحدا، ولكني أستغرب من شخص يكتب في صحيفة ويجهل أبسط قواعد الكتابة الصحفية ألا وهي الالتزام بالأمانة العلمية وعدم تقويل ما لم يُقل. فكل ما قاله الشيخ يماني أنه رأى بعضاً من آيات القرآن الكريم في مكتبة الفاتيكان، مكتوبة على جلد، تختلف في رسمها عما في أيدينا. وأن هذه الوريقات المكتوبة في ذلك العهد ربما لم تُسلم وتُجمع مع أمر أبي بكر بجمع ما دونه كتبة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا لا يحتاج لتقويل وتأويل. فعندما يقول قائل: إنه وجد نسخة من مخطوطة ما في مكان ما فهذا لا يعني أن المخطوطة الأصلية ناقصة، بل ربما المقصود على غير هذا النحو وأن هذه الآيات المتناثرة هي توكيد على صدق وصحة ما هو بأيدينا. وأن بني أمية لم يسلموا هذه القطع لسبب نجهله. فلم يقل الشيخ يماني أن كتاب الله ناقص كما يزعم الكاتب.

وإنه لمن المعلوم أن القرآن نزل منجماً، وأن ترتيب الآيات في السور توقيفية كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، بينما ترتيب السور في القرآن الكريم توفيقية من الصحابة والتابعين؛ فلم تكن في أيدي الناس في العهود التي سبقت عهد عثمان رضي الله عنه غير قطع من سعف النخل والجلد وورق البردي وغيره مكتوب فيها آيات متفرقة، بغير حرف الألف والتنقيط والتشكيل، وهو ما رآه الشيخ يماني. ثم ما الغرابة في قول الشيخ يماني: إن ما رآه فيه بعض الاختلاف في الإملاء عما بين أيدينا ؟! فلو رجع الكاتب إلى كتاب (الإتقان في علوم القرآن) للسيوطي، وإلى كتاب (البرهان في علوم القرآن) للزركشي؛ لوجد أن القرآن الكريم حين كتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يختلف في رسمه كثيراً عما بين أيدينا الآن. فقد اكتشف العلماء قبل سنوات سبع، في الجامع الكبير بمدينة صنعاء، مصحفاً سمي بـ (المصحف الصنعاني)، يعود تاريخه إلى القرن الأول الهجري، يختلف عما هو بين أيدي المسلمين من حيث الكتابة والإملاء، حيث كانت تكثر ظاهرة حذف الألف من الكتابات العربية آنذاك.

*************************************

4

عبدالله عمر خياط :

ليت اليماني اعترف بخطأ التعبير
صحيفة "عكاظ"

..كل إنسان يخطئ ويصيب إنْ في التفكير أو التعبير. وقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (كل ابن آدم خطاء, وخير الخطائين التوابون) ولقد أصاب الشيخ احمد زكي يماني فيما نشرته (المدينة) يوم الجمعة 17/5/1426هـ عندما صرح قائلا: (من قال إن المصحف الذي بين أيدينا ناقص فقد كفر).. وان جاء هذا التصحيح بعد شهرين من نشر مقاله الأول عندما اتهم بني أمية بدس بعض آيات المصحف الكريم, ونقلها ضمن الذخائر إلى الأندلس مما يدل على أنه يرى أن ثمة نقصاً في القرآن الكريم الذي قال عنه رب العزة والجلال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}. ولقد كان حرياً بالشيخ اليماني أن يعترف بخطأ التعبير أو سوء التقدير فيما سبق ونشره بقلمه. إذ كان كلامه الذي لا يمكن لمسلم أن يقبل به, وهو ماكان موضع انتقاد جمهرة الكتاب بالنص التالي: ( ومن طريف مارأيت قطعاً من الجلد كُتب عليها آيات من القرآن بحروف غيرمنقطة وقيل انه أجريت دراسات علمية لمعرفة عمر الجلد الذي كتبت عليه الآيات فتجاوز عمره مائتين وخمسين وألف سنة ميلادية, وهذا هو ماقادهم إلى افتراض أن بعض كتاب الوحي من بني أمية لم يسلموا مالديهم أو بعضه من آيات الكتاب الحكيم عندما جُمع المصحف في عهد الصديق رضي الله عنه, وأتلفت جميع الآيات المتفرقة التي نزلت منجمة). وهنا أسأل: اليست هذه الجملة من كلام اليماني في تصريحه الأول دالة على أن الايات المدسوسة عند بني أمية لم يضمّها المصحف?! ثم يمضي اليماني في تأكيد مزاعمه السابقة والتي عاد وتنصّل منها بدون اعتراف بخطأ منه في التعبير حيث يقول: (وانه عندما دالت دولة الأمويين في الشام وهرب عبدالرحمن الداخل إلى الأندلس حيث أقام دولة الأمويين استطاع فيما بعد نقل الذخائر ومنها تلك القطع التي كتب عليها آيات من القرآن أثناء نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الافتراض مع كل قرائنه يقرب من الصحة). أعود فأقول: أي صحة أيها الشيخ?! إن النص السابق والذي كتبته ونشرته المدينة لا يقبل التأويل, وإنما يدل وبكل وضوح أن الآيات التي دسها بنو أمية ليست في القرآن الذي بين أيدينا والذي قال عنه رب العزة والجلال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}. لقد كان حريا أن يعترف الشيخ احمد زكي يماني أنه أخطأ في التعبير فلو قال فيما سبق: وإن تلك الآيات التي دسها بنوأمية مثبتة في المصحف, وإنها بعض آيات مما ضمه المصحف الشريف, وقد اختزنها بنو أمية ربما لمجرد أنها من الآيات التي لم تنقط وآثروا الاحتفاظ بها, لكان ذلك صحيحا وما أثار غيرة المسلمين وجمهور الكتاب منهم. وأعود فأقول: إنه خطأ في التقدير وسوء في التعبير أوقع الشيخ فيما كان في غنى عنه, أما الذين حاولوا الدفاع عنه بكلام غث لا برهان له ولا إيضاح للحقيقة فيه فإنه يذكرني بقول ابن بسام:
وسمعت من غث الكلام ورثه وقبيحه باللحن والاعراب
وأنا اذكرهم بقول الحق سبحانه وتعالى في سورة (النساء):
{ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا} وأعود ثالثة فأقول ليت اليماني اعترف صراحة بخطأ التعبير لينال من الجميع حسن التقدير.

*************************************

5

محمد صلاح الدين:

حول رقاع الوحي بالفاتيكان
صحيفة "المدينة"

أحسن معالي الشيخ أحمد زكي يماني كثيرا، حينما حسم الضجة المثارة حول ما كتبه عن زيارته الأخيرة لحاضرة الفاتيكان واجتماعه بالبابا السابق، وذلك ببيان واضح أكد فيه ان القول بنقصان آيات كتاب الله هو مروق يخرج قائله من ربقة الدين وعرى الإسلام.

ولقد ساءني كما ساء الكثيرين، أن يسارع إخوة كرام من أهل المكانة والفضل، إلى إصدار الأحكام القاسية على الشيخ، والقفز من خلال ما نشر عنه في (المدينة) إلى استنتاجات تنقض الإيمان وتصادم اليقين، وقد علمنا مشايخنا وعلماؤنا، ضرورة التأويل لكل ما صدر عن المسلم من هذا القبيل واحسان الظن به، حتى يتم الاستيثاق منه والإقرار بلسانه، ذلك لأن إحسان الظن هو العاصم الذي يحفظ الجماعة المسلمة ويصون تماسكها كما نص على ذلك القرآن المجيد في قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا).. الآية (سورة النور 12)، هذا بالنسبة للمسلم العادي فكيف بمن في مقام الشيخ زكي يماني علما وفقها ومكانة ولا نزكي على الله أحدا.

إنني أقدر معنى الغيرة المحمودة في هذه الردود، وعلامَ يغار المسلمون إذا لم يغاروا على كتاب ربهم؟ لكن الشرع الحنيف قد أحاط إيمان المؤمنين وضمائرهم بسياج متين من التثبت والبينات، ووضع للمساس بهذا الايمان قيودا صارمة، يرعاها حق رعايتها من كان يرجو الله واليوم الآخر.

***

وإذا كان الشيخ زكي قد أكد بأنه ليس هناك من حرج في ذكر ادعاء القائمين على مكتبة الفاتيكان الخاصة، بأن القطع الجلدية التي وصلتهم من الأندلس (والتي يفترضون أن عمرها يقارب العهد النبوي)، هي من القطع التي احتفظ بها اصحابها ولم يسلموها لتحرق مع غيرها من القطع، اثر اعتماد الأمة لمصحف سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، وذلك لأن كتاب الله كامل شامل لجميع الآيات، فإنني أود أن أضيف بأن صدور الرجال التي استظهرت كتاب الله في العهد النبوي، كانت - مع هذه الرقاع - هي الأساس في جمع القرآن أكثر من هذه الرقاع المكتوبة، وهي كلها توثق بعضها البعض، ويكفيها توثيقا قول الحق تبارك وتعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (سورة الحجر 9)، وذلك تأكيد حاسم بأن القرآن الكريم تام بأمر الله ومحفوظ بحفظه سبحانه.

وإذا كان أحد الصحابة من كتبة الوحي - سواء كان من بني أمية أو غيرهم - قد احتفظ برقعة أو اثنتين للبركة، وهو أمر مستبعد لما نعرفه من خلائق هذا الجيل الرباني، فمعاذ الله أن يحجب محتواها من آيات الذكر الحكيم لأنهم جميعا دون استثناء أنقى وأتقى وأشد مخافة لله أن يرتكبوا هذا الجرم العظيم، الذي تهتز لهوله السموات والأرض، وقد كان هناك عشرات الحفاظ بين صحابة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى امتداد عهد ابي بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم أجمعين.

***

لقد كتبت وكتب إخوة غيري كثيرا عن أخلاقيات النشر وضوابطه، وعن مسؤوليات رؤساء التحرير، ويبدو أننا نحتاج للمزيد من التأكيد على كل ذلك بين حين وآخر، ذلك أن إيراد الشبهة، لا إنكار عليه من حيث المبدأ، ولكن إيراد الشبهة مشروط - عقلاً ونقلاً - بإيراد ما ينقضها من عقل ونقل حتى لا تروج دون قصد (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) (الأنبياء 18)، ولكم وددت أن يتم نقض شبهة (إخفاء شيء من القرآن) فور إيرادها، ولو حدث ذلك لما قامت ضجة قط، وذلك واجب جريدة (المدينة المنورة) في الدرجة الأولى، إذ لا يعلم جمهور القراء أن شيخنا الجليل أحمد زكي يماني شديد الانشغال كثير التنقل بين مركزه الدولي للطاقة ودار الفرقان، وموسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة، والكثير من المؤتمرات والمحاضرات التي يدعى لإلقائها، مما يجعله يتنقل على الدوام بين مختلف دول العالم.

وليس يخفى على الإخوة في (المدينة) الجريدة، أن من خصائص الخدمة الصحفية الذكية وشرائطها، لفت نظر الكاتب إلى مثل هذه الملاحظات حتى يستدركها حرصاً على الثوابت أولاً، وحفاظا على سمعة الكاتب ثانياً، واحتراما للقارئ وللرأي العام المسلم ثالثاً ونهوضاً بأمانة الكلمة رابعاً.

أما أولئك الذين اتخذوا من هذه القضية وسيلة للوقيعة والدس، ومركباً للإثارة واكتساب الشهرة وربما تصفية الحسابات، فإننا نقتدي بصاحب الشأن فنكل أمرهم إلى الله وهو حسيبهم، وإليه المشتكى وهو وحده المستعان.

عناويـن ذات صلة:

* زوبعةً دينية في السعودية

*الخيّاط يهاجم يماني

*السيد: اليمانى جامع ثروة

*د. عاصم حمدان: البابا والمفكر يماني ..