الأربعاء: 03 . 08 . 2005

ليست الوحدة الوطنية غير حقل من الحقول التي تتظاهر فيها حقيقة المجتمعات والدول. بمقارنة الوحدة الوطنية في بلداننا مع ما يقابلها في البلدان الحديثة، نجد ان تحققها عندنا محدود وجزئي، أو تشوبه عيوب ونواقص مقلقة.
تتجسد في الوحدة الوطنية هوية التجربة التاريخية التي عاشها مجتمع ما، ونمط التربية السياسية التي تلقاها أو جمعها، بخبرته الخاصة وعبر التأهيل السياسي ـ الحزبي المنظم، ونوع وعيه، وهل هو حديث: وطني ـ قومي، ام متأخر: ما قبل وطني ـ ما قبل قومي، وأهليته لأن يكون حامل مشروع تحرره... الخ. وتتجسد في الوحدة الوطنية ايضاً هوية الدولة، وما اذا كانت دولة مجتمعها، ام دولة فئوية تخص قسماً وحسب من أبنائها، دولة مجتمعية حديثة ام دولة سلطوية متخلفة، دولة تسوية وتوافق تاريخي بين السلطة والمجتمع، ام دولة إكراه وغلبة وغصب، دولة نجحت في إقامة فضاء واسع وحر داخلها تتحرك فيه بحرية وطلاقة مكوناتها المختلفة دون ان ترتطم بعنف ببعضها، ام دولة استئثار واستئصال ترفض الاعتراف بالآخر والإقرار بحقه في الحرية والتعبير المستقل عن مصالحه، وتدير مجتمعها بالتضييق عليه بواسطة أجهزة سرية وخفية فوق وخارج المحاسبة والمساءلة، مع انها تقرر كل شيء وتستأثر بالصلاحيات والوظائف.
من الصعب الحديث عن وحدة وطنية، اذا كانت لا تستمر الا بسبب خوف أطرافها من السلطة، ومن الصعب اعتبار الوحدة الوطنية متحققة اذا انتفى منها ذلك القدر من الاقتناع الطوعي بها الذي يتكفل بإدامتها مهما كانت الظروف والأحوال. ومن الصعب، أخيراً، تحقيق الوحدة الوطنية، ان كانت لا تتجسد وتتجلى في الدولة وأدواتها، وكانت محاولات تجسيدها فيها ترتطم بمقاومة الممسكين بهما، إما لأن قيامها خطر عليهم، أو لأنهم يستخدمون ما في مجتمعهم من تناقض وتمايز في سبيل ضبطه وقهره والتحكم به، فالنقص في الوحدة الوطنية هو هنا أساس السلطة ووحدتها، والأرضية التي يقوم عليها دورها وتشتغل بفضلها آلياتها ووظائفها.
ومع أنه لا توجد عندنا حكومة تقبل الاعتراف بدورها في تقويض الوحدة الوطنية ضمن مجال سيادتها، فإن حكوماتنا العربية الراهنة يجب ان تعتبر مسؤولة عمّا يشوب هذه الوحدة داخل بلدانها من عيوب ونواقص، ليس فقط لأن حكوماتنا كانت تستطيع تأسيسها في حاضنة سليمة خلال الفترة الطويلة التي أمضتها في الحكم، بل لأنها احتلت كذلك دوراً مهماً جداً في تأسيس أوطانها التي نعرف انه تم إنتاجها انطلاقاً من خرائط قسمت المشرق العربي إلى بلدان مختلفة، أنيط بدولها تكريس مجتمعاته المتباينة، على ان تبقى منفصلة بعضها عن بعض، ويكون لها قدر كبير من الخصوصية المصطنعة، وتحافظ على الهياكل البنيوية التي تجعل منها دولاً منقوصة ـ أو فاقدة الحداثة، تعجز عن إدارة شؤونها وإعادة إنتاج مجتمعاتها كمجتمعات حرة لمواطنين أحرار.
بإخفاقها في انجاز قدر من التحديث يجعل منها دول/مجتمع، قبل ان يحولها إلى دول/أمة، وفشلها في إخراج مجتمعاتها من التأخر والتجزئة القومية والوطنية، وعجزها عن مواجهة ما نجم من سياساتها وأبنيتها من أزمات، وما واكب تأسيسها من تحديات، خاصة في قضايا فلسطين والوحدة العربية وتأسيس نظام اجتماعي متقدّم وعادل، أخذت الدول الجديدة تتلاعب عقب تأسيسها بفترة قصيرة، بمشكلات تتصل بالفئوية والطبقية والإتنية والمذهبية والحزبية والايديولوجية... الخ، وما لبثت ان رأت في نقص الوحدة الوطنية عنصراً حاسماً من عناصر استقرارها، فدخلت بلداننا في طور تبدو نتائجه الخطيرة اليوم امامنا، بعد ان تراكمت مواده الناسفة والمدمرة خلال السنوات الأربعين الماضية، إلى ان بلغنا أخيراً مرحلة استحقاقات لا تحتمل التأجيل.
هل تذهب المجتمعات والدول العربية نحو الوحدة ام التفكك، الاندماج ام الانفراط؟، هل يعزز تطور العرب الطبيعي وحدة مجتمعاتهم الوطنية ام يضعفها؟، وهل تنصب جهودهم المنظمة على تقويتها بما هي أولوية تتقدم أي شيء عداها؟. عن أية وحدة وطنية نتحدث، إذا كانت نقاط التقاء المواطنين تتحول إلى خطوط تماس متفجرة، يتطلب تهدئتها تدخل الجهات الأمنية التي إقامتها، وسيكون لها مصلحة في تفجيرها ذات يوم؟!.