تأثير الفيديرالية العراقية على العالم العربي: ثقافةً سياسيةً، نظاماً سياسياً
وقفة تاريخية
لقد كان التشكيل التاريخي لبلداننا ودولنا العربية عند بدايات القرن العشرين مهلهلا وضعيفا اثر تفكك الامبراطورية العثمانية وزوالها بعد اضمحلال جغرافياتها. فبرزت الى الوجود دول عربية متنوعة كنت قد عالجت اصنافها بالتفصيل في كتابي: "بقايا وجذور: التكوين العربي الحديث" المنشور في العام 1997. اذ بدت لي اصناف عدة من الدول: دول منقسمة على ذاتها ودول مركبة من الاقاليم ودول اسطورية قديمة ودول لا تاريخ لها...
فالعراق والسعودية وليبيا والامارات مثلا - دول مركبة، واليمن وعمان والمغرب وتونس دول تاريخية قديمة. أما مصر ولبنان وسوريا وموريتانيا فهي دول مجزأة. وعاشت هذه الدول تحمل جملة هائلة من التناقضات الاجتماعية والسياسية والثقافية من دون ان يلتفت اليها ابناؤها ليعترفوا اولا بحجم معضلاتها كي لا يتهموا في وطنيتهم، فضيعوا فرصا ثمينة لايجاد حلول عملية بعد الاعتراف بها. بل ان الذي ساد انما تمثل بتوهم الخيال حقيقة، واغفال تلك التناقضات التي أخذت تتفجر يوما بعد آخر سواء في زمن المد الوطني لما بين الحربين العظمتين، او في زمن القومية العربية (1949 1979)، او في زمن "الصحوة الدينية" التي نعيشها اليوم (1979 -...). وبتأثير تخدير الايديولوجيات وعظم التحديات وبلاهة القادة وصناع القرارات وخصوصا في بلداننا العربية، تبرز فجأة مشروعات عدة لتواجه العقل العربي والذات العربية وسط انشغالات التفكير في مسائل الاصلاحات الداخلية والمتغيرات السياسية الحقيقية.
متغيرات العراق وآثارها
لعل من اهم ما نتج عن متغيرات العراق في المنطقة جميعا والتي نبهنا اليها مرارا وتكرارا منذ سقوط نظام صدام حسين حتى اليوم: تحولات هائلة ليس في التناقضات السائدة، بل في طبيعة تلك "التناقضات" التي تعيد انتاج التاريخ والتأسيس من جديد اليوم، ولكن من داخل المنظومة الاجتماعية، وليس من خارجها كما جرى في القرن العشرين.
لم يعد التعايش الاجتماعي بكل روعته التاريخية ممكنا بين القوميات والاقليات والملل والطوائف في المجتمع العربي. ولم يعد هناك اي منطق للتفاهم بين الغالبيات والاقليات كون هذا المفهوم اصبح باليا، بل تلعب اجندات متنوعة في اذكاء روح الانفصال والتخندقات. لقد اساءت النظم السياسية العربية لمجتمعاتنا عموما قبل ان نجعل من اي مشروعات فيديرالية او كونفيديرالية اميركية او غير اميركية قميص عثمان او شماعة نعلق فوقها كل سوالبنا ومثالبنا واخطائنا وخطايانا. ان هناك اسباباً حقيقية في اذكاء اية مشروعات لتفكيك الهيئة الاجتماعية الداخلية استطاع اصحاب المشروعات ان يخترقوها ويستخدموها لمصلحة تطبيق ما يرونه مناسبا في القرن الحادي والعشرين.
لقد وجد العراق نفسه يزحف نحو التفكك منذ الجلاد صدام حسين وسياساته الشوفينية في اقصاء ابناء شعبه، فما ان سقط حتى سقط معه ذلك الرمز الوطني الذي استمر يعيش قرابة ثمانين سنة معززا مكرما لدى العراقيين، وبدا العراق متشرذما اذ اخذ سكانه يهرعون الى التماهي مع طوائفهم او ثقافاتهم او محلياتهم او شراكاتهم وساعدت في ذلك اجندة خفية بدأ يستخدمها الساسة العراقيون الجدد في ابقاء المسكوت عنه حيا واستخدامه في اللحظة المناسبة. ان المشكلة ليست في المبادئ الفيدرالية (اتحاد اقاليم ) او المبادئ الكونفيديرالية (اتحاد دول )، ولكن ما سيعقب من نتائج مصيرية ستحدد تفكيك الوحدة الكلية اجزاء يساعد على انفصالها ما يكمن وراء ذلك من احقاد وكراهيات وثارات ودوافع اجتماعية وثقافية ودينية وطائفية وقبلية وعشائرية.
ان العلاجات الفيديرالية تُستدعى في حالة تكون فيها الاقاليم مفككة من اجل تركيبها فيديراليا، أما ان تقطع البلاد اجزاء باسم "الفيديرالية" فهذه تجربة فريدة في التاريخ. واذا ما اعترفنا بحاجة الاكراد في العراق الى فيديرالية اقليمية ضمن هيئة عراقية واحدة، فما هي اسباب تقسيم العراق "فيديراليات" وليس في المجتمع العراقي اية انقسامات اجتماعية او ثقافية مريعة؟ فهل سمعنا بفيديراليات طائفية دينية في اي بلد في العالم؟ ان ايران وتركيا فيهما انقسامات اجتماعية وثقافية وعرقية وطائفية واسعة ولكن لم نسمع عن اي شعارات فيديرالية فيهما. فما اسباب استدعائها عراقيا او عربيا؟ ان مجتمعات الشرق الاوسط معقدة كلها على اشد ما يكون التعقيد، فهل يقبل الايرانيون والاتراك - مثلا - المناداة بتأسيس فيديراليات اقليمية في بلدانهم؟
مجتمعاتنا معقدة في دواخلها
اذا كان المجتمع العراقي معقدا على اشد انواع التعقيد، فان مجتمعات مجاورة له وخصوصا العربية منها، معقدة المركبات وقابلة ان تتعامل مع نفسها على منوال العراق نفسه تحت مسميات ربما تصلح في منطقتنا وربما لا تصلح لها ابدا. واذا كانت المرجعيات الدينية والعرقية والطائفية في مجتمعات حضارية لا تأتي الا في المرتبة الاخيرة ولم تستخدم سياسيا او اجتماعيا بفعل تطور الاذهان والتعامل مع القوانين المدنية كيف يمكننا ان نضمن ان نظماً حضارية لها مبادئ في التطبيقات المدنية والحضارية يمكن تطبيقها في منطقتنا ولا يساء استخدامها، والذهنية في مجتمعاتنا مشبعة بالترسبات التاريخية ومواريث الاعراق والاديان والطوائف والقبليات؟
اي كيف نحمي مجتمعاتنا من غلو المتعصبين دينيا والمتطرفين عرقيا وتفكيك عرى مجتمعاتنا؟ اعتقد انها ستدخل مرحلة صعبة جدا من التناحرات ليس فقط على المعاني والافكار والمعتقدات بل على المصالح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ان ذلك سيهدد نسيجنا الاجتماعي في الصميم وسيخلق كيانات سياسية تنشغل في حروب قبلية وطائفية وجهوية وعرقية بعد ان يتفكك كل شيء وتموت ليس الدول التي عاشت في القرن العشرين، بل الاوطان القديمة التي حفلت بالتعايشات ومبادئ الشراكة الرائعة عبر التاريخ.
هل تصلح مشروعات العالم لمجتمعاتنا؟
ان مشروعات الفيديرالية العربية ربما تصلح لمجتمعاتنا في حالة كون هذه المجتمعات وصلت الى درجة من الرقي في بناء العلاقات الداخلية وفهم كيفية التطبيق في ضوء الدساتير المدنية ومنح الحريات وتحرير الفكر والتفكير وتقديم الاهم على المهم. اما مجتمعاتنا فهي في حالة غلو وانقسام وتناقضات وكراهية واحقاد. ان تجربة العراق خير مثال للعالم اجمع. وفي الوقت الذي يمزقه الارهاب الداخلي والخارجي، فان العراقيين يسعون بانفسهم الى حتفهم من خلال انقساماتهم الاجتماعية وتكتلاتهم الدينية وائتلافاتهم الطائفية وانفصالاتهم العرقية والفئوية. وفجأة تجد الاحقاد القديمة تطفو على السطح وقد اصبح التشرذم الوطني مثلا يعتد به. وكل ذلك يأتي باسم الديموقراطية والفيديرالية. علما بأن كلا من هاتين القيمتين الحضاريتين تعدان في ذروة ما وصله الفكر السياسي الحديث.
اذا كانت مجتمعاتنا حتى يومنا هذا سواء باحزابها المترهلة أو بفئوياتها القومية أو بجماعاتها الدينية وحتى على ألسنة رجال الدين والسياسة واقلامهم يتم فيها التشبث بالافكار القديمة والشعارات البليدة وبقايا تواريخ ماضوية، فكيف يمكن تطبيق الديموقراطية والفيديرالية فيها من دون ان يأكل احدها الاخر؟
هل سيطبق مشروع الفيدراليات
في منطقة الشرق الاوسط؟
اعتقد ان مصير العراق رهن ظرفه الحالي ومصيره قد حدد منذ زمن بعيد عندما هزم هزيمة نكراء في "عاصفة الصحراء" عام 1991 وأخذ يعاني من سكرات الموت من دون ان يعينه حاكمه على البقاء بتبديل سياساته العقيمة التي اودت به الى مهالك الردى. ولما سقط النظام على ايدي الاميركيين وحلفائهم لم يحظَ حتى اليوم بقادة جدد يؤمنون بالعراق وطنا وارضا وشعبا، ويدركون الاثمان الباهضة التي سيدفعها ابناء العراق اثر تقسيمه بأي صيغة من الصيغ.
والسؤال: هل يمكن ان تسري تجربة العراق الصعبة في بلدان عربية أخرى؟ الجواب عليه: نعم، في ظل الاوضاع السياسية المهترئة التي تعاني منها الدول العربية ومجتمعاتها وحالات النفور السياسية التي تعبر تعبيرا حقيقيا عن انقسامات داخلية مريعة، وربما لا يستطيع ادراكها وتحسسها عامة الناس. ولكنني ارى تحت الرماد وميض جمر يكاد يكون لها ضرام... فان لم "يطفها عقلاء قوم يكون وقودها جمر وهام".
ان العراق في تجربته التاريخية الصعبة التي يجتازها اليوم، وسواء نجح فيها ام فشل، سوف يكون نموذجا حقيقيا في تطبيقاته على بلدان اخرى ربما لم تعانِ ابدا مثل الذي يعانيه العراق، وخصوصا لبنان وسوريا والسودان والجزائر... وربما مصر والسعودية في مقبل الايام. ان اي مشروع خطير ان بدأ في مكان ما من منطقتنا، ستتأثر به اماكن وبيئات أخرى. لقد كان تأثير متغيرات مصر كبيرا على كل المنطقة عند مطلع القرن التاسع عشر وخصوصا بعد حملة بونابرت. وكان تأثير متغيرات ما بعد الحرب العالمية الاولى ومؤتمر فرساي 1919 كبيرا على منطقتنا عند بدايات القرن العشرين.
وها نحن نشهد تأثير متغيرات العراق على كل المنطقة في بدايات القرن الحادي والعشرين، وبعد سقوط نظام صدام حسين وموت الافكار السياسية والوحدوية المركزية التي حملها حزبه والاحزاب القومية التي لم تقدم شيئا ذا بال على امتداد القرن العشرين. ستنشأ اجيال جديدة في المنطقة في ظل تحديات من نوع آخر، فهل ثمة وعي تاريخي بالمصير الذي سيلحق بكل المنطقة؟
(الملف من اعداد جاد يتيم)
التعليقات