حتى هذا التاريخ، يكون قد مرّ على الانقلاب العسكري في موريتانيا نحو خمسة أسابيع، وخلال هذه الأسابيع الخمسة، قيل الكثير في الصحافة العربية، الكثير من الحذر و الخوف من عودة الانقلابات العسكرية إلى الواجهة التي ظنّ البعض أنهم قد ودّعوها في المركز العربي (بلدان المشرق العربي التي عرفت انقلابات عسكرية متتالية) لتنتقل بعد ذلك إلى المحيط ثم تخمد مع أواسط عقد الثمانينات من القرن المنصرم، أي مع الانقلاب السوداني الذي قاده الجنرال عبد الرحمن سوار الذهب في أوائل إبريل 1985.
وقيل الكثير من التقريظ بحق الانقلابيين الذين قادوا الانقلاب على الرئيس الموريتاني المخلوع ولد الطايع الذي صادر كغيره من العسكريين الذين حكموا البلدان العربية، الحياة السياسية و الحزبية في موريتانيا، لكن ما بين القولين، ضاعت دلالات الحدث الموريتاني الذي قاده العقيد أعلى بن محمد فال (سوار ذهب موريتانيا إن جاز التشبيه ضداً على الرئيس السابق ولد الطايع.
في وقت مبكر يعود إلى مطلع عقد الستينات من القرن المنصرم، كتب المفكر المصري أنور عبدالملك، كتابه الشهير (مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون) كان الكتاب يؤرخ لذلك الصراع بين المجتمع المدني وقواه الديمقراطية التي طالبت بعودة العسكر إلى ثكناتهم بعد نجاح ثورة 1952، وبين العسكر الذين تشبثوا بالحكم ورفضوا العودة إلى الثكنات معلنين أن الجيش للحرب وألأعمار معاً، وأن مجتمعاً مصرياً جديداً سيولد على يد القادة العسكريين الجدد، وهذا ما كان بعد نجاح ثورة يوليو1952.
مع إخفاق الثورة وموت حاملها الرئيس جمال عبدالناصر، تكررت ظاهرة الانقلابات العسكرية مع مطلع عقد السبعينات، وراح العسكريون الجدد من قادة الانقلابات يرفعون شعار (الجيش للحرب و الأعمار) ولكن بعض المفكرين العرب راحوا يشككون بذلك بعد انطفاء وهج الناصرية، فالجيش الذي يرفع شعار الحرب والاعمار لا يمكن له أن يقوم بعقلنة المجتمع بكيفية شاملة ومسترسلة كما كتب المفكر المغاربي عبدالله العروي في كتابه (العرب والفكر التاريخي) وأن الانقلابات العسكرية من شأنها أن تمهد إلى عصر اكتمال التبعية كما ذهب إلى ذلك خلدون حسن النقيب في أطروحته عن الدولة الاستبدادية في المشرق العربي، وهذا ما كان، فقد صودرت الحياة السياسية والحزبية في المنطقة العربية، ولم يستطع العسكر القادمون على ظهر الدبابات بناء مجتمع جديد ولا دولة جديدة، وازدادت الهوة بين المجتمع الأهلي بكافة شرائحه وصنوفه وبين الدولة الأمنية الاستبدادية، ولم تفلح الهزائم المتكررة ولا الدعوة إلى عقد اجتماعي جديد الذي دعا له عدد كبير من المثقفين العرب في العقدين المنصرمين في لجم الهوة بين المجتمع والدولة التي راحت تنظر بعين الشك والريبة والعقلية التآمرية إلى كل عقد جديد أو كل حياة حزبية جديدة أو أي دعوة إلى إصلاح الدولة، وما يلفت النظر هو نجاح الدولة الاستبدادية العربية في بناء تحالفات داخل النظام الإقليمي العربي وخارجه وبالأخص مع الولايات المتحدة الأمريكية، تمنحها الديمومة والاستمرار ضد عاديات الزمن، ولكن عاديات الزمن تأبى ألا أن تفعل فعلها ،فبدأ الحت والنخر في المؤسسة العسكرية من قبل رياح الديمقراطية، التي بدأ وصول عدواها إلى بعض الضباط غير المقتنعين بحالة الصدام الأزلي بين المؤسسة العسكرية والمجتمع الأهلي، فلابد من هدم الجدار، وهنا يكمن الرهان الذي لم ينتبه إليه قادة المجتمع المدني/الأهلي، الذي أبقوا على تصورهم بشأن المؤسسة العسكرية بأنها كل لا يقبل التطوير ولا التغيير ولا الديمقراطية، المطلوب ليس الدخول في حالة صدام مع المؤسسة بل إعادة تأهيلها ديمقراطياً، وهذا ما أغفلته قوى حزبية عديدة وفي مقدمتها قوى المجتمع المدني، فالمؤسسة العسكرية الحاكمة والتي تشعر أنها مستهدفة وهي القوية من قبل المجتمع المدني، لا يمكن لها أن تسلم زمام أمورها بسهولة، ولكنها عندما تشعر أنها جزء من عملية التحول الديمقراطي فإنها قد تقبل بذلك، وهنا تكمن أهمية الحدث الموريتاني الذي يشير إلى تحول ديمقراطي داخل المؤسسة العسكرية، فبدون ثأر ولا دم ولا اغتيالات ولا تصفيات طالت أفراد وعائلة الرئيس ولد الطايع الذين أرسلوا له معززين مكرمين، قاد الانقلابيون انقلابهم، ونجحوا في ذلك ومن الدقائق الأولى، على أن الأهم هو إطلاقهم لسراح المعتقلين السياسيين من أهل الرأي، وهذا شاهد بدوره على التحول الديمقراطي الذي طال قادة الانقلاب وعلى الرسالة التي يحملونها، من هنا جاءت أهمية الحدث الموريتاني ودلالاته على الساحة العربية، فليس المطلوب حالة من الاستقطاب بين المجتمع الأهلي/المدني والمؤسسة العسكرية، وهنا يكمن التحدي، بل إعادة تأهيل المؤسسة الأمنية العسكرية الحاكمة لتصبح جزءاً من عملية التغيير الديمقراطي وهنا مرة ثانية تكمن أهمية الحدث الموريتاني الذي لم يقرأ حتى الآن بصورة ناجعة من قوى ديمقراطية يحكمها العداء والخوف الأزلي من العسكر؟.