منذ 12 آذار (مارس) 2004 (تاريخ نشوب أحداث القامشلي)، طفت إلى سطح السياسة السورية، في السلطة والموالاة والمعارضة، المواضيع والقضايا التي تتعلق بأوضاع أكراد سورية، وهو أمر غير مسبوق عند الأطراف الثلاثة المذكورة، فيما صعّدَت الأحزاب الكردية السورية من مطالبها بعد ذلك التاريخ، متشجعة بأوضاع أكراد العراق في مرحلة ما بعد 9 نيسان (أبريل) 2003، وهي التي كانت طوال ثلاثة عقود سابقة في موقع أقرب لموالاة السلطة السورية، بحكم تحالفات برزاني وطالباني وأوغلان مع دمشق حتى نهاية التسعينات، وهذا أمر لا نلاحظه فقط في القامشلي وإنما أيضاً في ديار بكر ومها باد.
قبل عام 2004، كانت الأحزاب الكردية السورية في موقع المطالبات الفئوية الخاصة بأوضاع الأكراد السوريين، فيما انضمت، منذ العام الماضي، إلى العمل المعارض العام، وبدأت تطرح مطالب سورية عامة (إلغاء قانون الطواريء - نشر الحريات الديموقراطية...الخ) مع المطالب الكردية القديمة (إلغاء نتائج إحصاء 1962 الذي حرم نحو 25 ألف كردي من الجنسية -أراضي سكان الغمر العرب الذين أسكنوا في محافظة الحسكة بعد أن غمرت أراضيهم على الفرات عقب إقامة السد - مطالب تتعلق بمكانة اللغة الكردية في التعليم ووسائل الإعلام العامة والخاصة... الخ).
بعد 12 آذار 2004، بدأت الأحزاب الكردية السورية تطرح قضايا جديدة: استخدام مقولة «الشعب الكردي في سورية» وهذا كان مضمراً عند الكثير من تلك الأحزاب، وإذا كان معلناً فإنه لم يكن مفعّلاً في طروحاتها ومقولاتها السياسية. وحتى المعتدل بينهم، مثل «الحزب اليساري الكردي في سورية» الذي يقول إن «الشعب الكردي هو جزء من الشعب السوري... وإن المسألة الكردية في سورية تحلُ في دمشق لا في مكان آخر»، يجد نفسه معزولاً في الوسط السياسي الكردي، على رغم احتفاظه بمقولة «الشعب الكردي» التي يريد تفعيلها في إطار وطني سوري، أعلن أن الشعب الكردي «تعّرض للتقسيم عبر سايكس - بيكو ومعاهدة لوزان ما أدى إلى تحّول كردستان إلى أراضٍ مجزأة بين أربع دول، وهذا ما يدفع تلك الأحزاب إلى الحديث عن»مناطق كردية «في سورية، وليس عن سكان أكراد في مناطق سورية محددة - بدأ الحديث عن الحقوق القومية لـ «الشعب الكردي في سورية»، وليس عن حقوق ديموقراطية لمواطنين سوريين من أصل كردي، وحتى إذا تكلموا عن حقوق ديموقراطية فإنهم يتكلمون عنها بوصفها حقوقاً لـ «شعب» و»قومية» يأخذان وضع الأقلية في بلد محدد اسمه سورية (7 في المئة من السكان، وقسم كبير منهم مستعرب). هذه الطروحات الجديدة أو المستجدة عند الأحزاب الكردية السورية (التي انزلق إلى بحرها الكثير من المعارضين السوريين، بحكم دوافع من بينها مراهنات على استجلاب «ماء الأكراد» إلى طاحونة المعارضة السورية، من دون الاعتبار بما حصل للمعارضة العراقية من قبل طالباني وبرزاني بعد سقوط صدام حسين) تطرح إشكاليات كبيرة في المشهد السياسي السوري.
أهَم هذه الإشكاليات، وأولها، يتمثَل في كيف نعرِّف أكراد سورية: هل هم شعب؟ أم مواطنون أكراد سوريون؟... ثم: ألا يطرح ذلك قضايا تتعلق بآخرين، يمكن أن يعِرفوا أنفسهم (لاحقاً) كجماعات وليس كأفراد أو كمواطنين سوريين، هم متحدرون من قوميات أخرى غير عربية (أرمن- شركس - تركمان)، وهذا ما سيؤدي إلى اعتبار سورية مؤلفة من جماعات (وشعوب)، كما يجري الآن في العراق، بما يعنيه من طرح قضايا، أقلها الفيديرالية، لتصل إلى سلم أعلى، متمثل في الكونفيدرالية، أو حق تقرير المصير الذي يعني ثلاث سكك: الاندماج، الحكم الذاتي، الانفصال؟
وبالتالي: ألن يؤدي ذلك للوصول إلى أن سورية لا تتضمن شعباً واحداً، وإنما جماعات يمكن أن تقيم وضعاً توافقياً قائماً على توزيع الحصص والمناصب (وربما المناطق أيضاً كما يطالب أكراد العراق الآن حيال كركوك بضمها إلى «المنطقة الكردية») كما يحدث في العراق الآن، وكما حدث في لبنان 1943و1989، هذا إذا لم نتحدث عن أن ذلك يعني نشوء الأوضاع الملائمة للتقسيم، سواء بالرضا (تشيخوسلوفاكيا)، أو عبر وضع موضوعي ناتج من انهيار حالة سياسية قائمة (الاتحاد السوفياتي)، أو بوضع داخلي ملائم للتقسيم لا يمنعه سوى الوضعين الدولي والإقليمي (العراق الحالي)؟
لم تقم المعارضة السورية، إلى الآن، بوضع الأمور في نصابها أمام الأكراد السوريين: هذا يشمل أغلب المعارضين، حتى الذين لم يراهنوا على «الوضع الكردي» بما يتضمنه «تقوية المعارضة»، انطلاقاً من قناعة عند البعض بأن هذا الموضوع يدخل في سياقات أوضاع دولية -إقليمية «ستؤدي رياحها إلى اقتلاع الأنظمة»، حيث مازال الوضع غائماً في هذا الصدد، وهو شيء لا يلاحظ فقط في «لجان إحياء المجتمع المدني»، وإنما أيضاً عند «التجمع الوطني الديموقراطي». وانعكس ذلك في وثيقة «لجنة التنسيق الوطني»، أوائل هذا العام، التي ضمت أطيافاً واسعة من الأحزاب والمنظمات العربية والكردية، عندما خطت فيها عبارة «حلُ المسألة الكردية في إطار ديموقراطي»، من دون توضيح ما إذا كان الأمر حقوقاً ديموقراطية لـ «شعب كردي» أم لمواطنين سوريين أكراد، مع العلم بأن مقولة «المسألة» تتضمن حقوقاً لشعب، كما في حالة الفلسطينيين، ولا يعرف ما إذا كان المعارضون السوريون العرب، الموقعون على الوثيقة المذكورة، واعين لذلك أم لا؟
ألم يحن الوقت لتحديد أي طريق ستختاره المعارضة السورية حيال هذا الموضوع، أم أنها فعلاً منقسمة تجاهه؟... إن كان الأمر هكذا: فلماذا الخوف من إعلان هذا الانقسام حيال موضوع وطني بامتياز، يخصُ مستقبل سورية؟
كاتب سوري.
التعليقات