الجمعة:06. 01. 2006

عمر كوش

يعيدنا الحديث الذي أدلى به السيد عبدالحليم خدام الى قناة laquo;العربيةraquo; إلى إعادة النظر في العلاقات السورية ndash; اللبنانية وما عرفته من مآزق وانهيارات فاقت كل التوقعات، وإلى الأزمة الداخلية التي تعاني منها سورية، على مستوى النظام السياسي، ومستويات داخلية عديدة.

ويذهب كتاب ومحللون سياسيون إلى القول ان كلام خدام يختصر المآل الذي وصلت إليه العلاقات بين البلدين وفي كل منهما. اذ أراد أن ينأى بنفسه عن مسؤولية الانهيار التي يتحمل قسطاً منها، وأن يصور الحقبة التي كان ممسكاً فيها بـ laquo;الملف اللبنانيraquo; وكأنها حقبة رائعة، ناصعة البياض، اعتراها التسوس والعطب حين ترك الملف، أو حين طلب منه ترك الملف عام 1998.

ويشهد واقع الحال على أن تأزم العلاقات السورية - اللبنانيةغير مرتبط بمؤامرات القوى الخارجية، بل هو نتيجة لنهج خاطئ طبق على مدى عقود، وأنتج ممارسات خاطئة أفضت إلى انهيار العلاقات التاريخية laquo;المميزةraquo; بين لبنان وسورية. وهذا لا يعني انتفاء الضغوطات الخارجية وانتفاء الأجندة الأميركية التي تريد أن تحول كياناتنا مجرد دويلات تتواشج مع المخططات والخرائط التي لا تعنى بغير المصالح الأميركية وسبل حمايتها واستمراريتها. لكن العامل الذاتي هو العامل المحدد لسبل حماية الداخل وتوفير القدرة له لمواجهة تحديات قوى الخارج.

إن القراءة التي تعتمد على رؤية العامل الداخلي، المحدد والحاسم، تريد القطع مع الإرث المخادع الذي يصور الداخل بوصفه مهدداً على الدوام، وموضعاً لاطماع قوى الخارج، وبالتالي تريد القطع من الإرث الذي اعتاد على تحميل مسؤولية كل الأزمات والنكسات على العدو وقواه المتآمرة، وعلى وضع أي معارضة داخلية في خانة خدمة العدو ومؤامرته.

والواقع أن العلاقات السورية - اللبنانية لم تبن على أسس سليمة ومتوازنة، سواء من طرف النظام في سورية أم من طرف الزعامات السياسية اللبنانية المتناثرة التي تزعمت المجالين السياسي والاقتصادي للبنان ما بعد الحرب. فقد ساد نهج من الهيمنة وهاجس من الأمن وعلاقات من الضعف، وأريد للبنان أن يكون laquo;ساحةraquo; لتصفية الصراعات على السلطة، وفي السلطة، واعتبر معبراً لكل المؤامرات التي تحاك ضد سورية. كما اختصرت العلاقات ما بين البلدين إلى علاقات بين أجهزة الاستخبارات وبين فئات مافيوية فاسدة. ولم يستفد الشعبان منها إلا بمقدار ما تفرضه علاقات الجيرة والأخوة وبحدودها الدنيا.

وباغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري تعرضت العلاقات إلى هزّة عنيفة، ودخلت مرحلة من التعقيد والتأزم لم تكن في حاجة إليها، نظراً الى تراكم الممارسات الخاطئة التي أرساها النظام الشمولي، وللتوظيفات السياسية لبنانياً لحادثة الاغتيال، فضلاً عن المسبقات من الأحكام التي وضعتها وراكمتها الصور النمطية الراقدة في أذهان الكثيرين، وظهور الاختصار السياسي الذي بات ينظر فيه إلى الإنسان السوري أو اللبناني وكأنه كائن نظام، والذي روّج له العديد من المعلقين والكتاب من الجانبين.

وقد كتب وقيل الكثير عن تصحيح العلاقات بين البلدين الجارين من طرف الغيورين على الشعبين. لكن يبدو أن التصحيح المطلوب لن يأتي أبداً، خصوصاً مع استمرار النهج الخاطئ ذاته، واستمرار سطوة التدخل الأميركي والأوروبي. وبالتالي لن يتوافر المناخ الملائم الذي يمكن بوجوده تصحيح الخلل في هذه العلاقات والوصول إلى علاقات متوازنة وسليمة، ذلك أن سلامة العلاقات بين أي بلدين لا يمكن أن تحدث إلا في ظل مناخ ديموقراطي ينهض على التفاهم والتبادل، ويحقق مصالح كلا الشعبين وليس مصالح فئات مهيمنة في كلا البلدين.

لقد تشارك الشعبان السوري واللبناني في لحظات تاريخية عديدة كان لها أثرها على استقرار البلدين، لكن السياسة التي نهضت على تحالفات وفق شبكة من المصالح الضيقة والفاسدة اختصرت التأثير في نطاقها، وحاصرت أوجه التفاعل والتبادل الأخرى بين الشعبين، لتحضر توترات السياسة ومشادات التعصب وتهويمات الصور النمطية التي نسجت مكونات من التمركز، لبنانياً وسورياً، ومختلف مركباته وفق أشكال متخيلة ونمطية، تستلهم كل إمكانات التهميش والإلغاء والعنصرية.

ابتعدت السياسة التي مورست خلال العقود الثلاثة الماضية عن السياسة بمعناها المدني الواسع، التي أرسى مفهومها أفلاطون وسواه من الفلاسفة في الأيام الغابرة من التاريخ الإنساني، فمثل هذه السياسة ماتت مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، كما أعلن ذات يوم ميشيل فوكو. وتظهر توترات السياسة الميتة التداخل في الشؤون الداخلية للبلدين خلال مجمل التاريخ المشترك بين الكيانين. لكن المحزن في الأمر هو أن يغيب تأثير العنصر المدني والاجتماعي الحي، وهذا عائد إلى تركيبة كلا النظامين السياسيين وطبيعتهما، وبما يفسر هذا الغياب والإقصاء.


* كاتب سوري.