الأحد:08. 01. 2006
فاروق شوشة
الكتابة عن الدكتور مصطفي المنيلاويrlm;,rlm; العالم والطبيب والإنسان والفنان الذي رحل عنا قرب ختام العام الماضيrlm;,rlm; منذ أيام قليلة شديدة الصعوبةrlm;.rlm; في مثل هذه المساحة المتاحة للكتابةrlm;,rlm; وعندما يحاول واحد من الالوف التي اقتربت من الجوار الحميم لهذا الطبيب النابغةrlm;,rlm; أن يقدم لمحات سريعة عنهrlm;,rlm; وأن يصور بقلمه بعض الملامح التي لا يمكن أن تغيبrlm;,rlm; فغاية ما يمكن تحقيقهrlm;,rlm; الإشارة إلي أمور تسبق غيرها في مجال الكلامrlm;.rlm;
أولها أن مصطفي المنيلاويrlm;,rlm; لم يكن طبيبا تقليدياrlm;,rlm; يعكف علي مصدر العلةrlm;,rlm; مشخصا ومعالجاrlm;,rlm; بقدر ما كان طبيبا يضع الشخصية الإنسانية كلها في مجال اهتمامهrlm;.rlm; فالعلة التي يشكو منها صاحبها لايمكن التوصل إلي حقيقتها من غير إدراك لحالة صاحبها ـ عقليا ونفسيا وروحيا ووجوديا ـ قبل البحث في أعراض العلة جسدياrlm;.rlm; وكثيرا ما كان تشخيصه يتمrlm;,rlm; ويصل إلي غايتهrlm;,rlm; من خلال مقدمات الحوار والجس بالأصابع واستخدام السماعةrlm;,rlm; قبل أن يستخدم منظاره الدقيق للتأكد من أن تشخيصه الأولي قد أصابrlm;.rlm; ويحار مريدوه من مرضاه وأصدقائه وزواره في فهم هذه الظاهرة النادرة؟ هل هو إلهام يقوده إلي الوعي الدقيق بالحالة التي يشخصها؟ هل هو الحدس الذكي السريع كالبرق أو كسريان الكهرباء هو الذي يمكنه من النفاذ إلي السر البعيد للعلة والمعرفة الكاملة بحقيقة الداء؟
وثانيها أنه ـ وهو الرائد في طب المناظرة واستخدامها في تشخيص أمراض الجهاز الهضمي ودوالي المريء وعلاجهاrlm;,rlm; والتخصص ـ بصورة خاصة ـ في كل مايتصل بالكبدrlm;,rlm; بعد أن جعل منه محور اهتمامه الدراسي الأساسيrlm;,rlm; وهو الذي ـ عبر مشواره التعليمي والأكاديمي الطويل ـ تزود بالمعرفة الفائقة عن القلب والمعدة والمريء والأمعاء وغيرها من المناطق التي كان منظاره يصل إليها في سهولة ويسرrlm;,rlm; وفي سرعة لاتصدقrlm;,rlm; وبيد ذكية حساسة مدربةrlm;.rlm; وعندما ذاعت شهرته في مجال المناظيرrlm;,rlm; وفي مجال الكبدrlm;,rlm; أصبح الخبير المستشار لكثير من المؤسسات العلاجية والأكاديميات الطبية في دول عديدة عربية وآسيوية وإفريقيةrlm;,rlm; فضلا عن مشاركاته بالبحث والدراسة والخبرة في عديد المؤتمرات الدوليةrlm;:rlm; أوروبية وأمريكيةrlm;.rlm; الأمر الذي جعله دائم التجدد والتطور والتقدمrlm;,rlm; متابعا ومطلعاrlm;,rlm;
ومضطلعا بمسئولية تقديم هذا العلم وهذه الخبرة الي كل مجال عمل فيهrlm;,rlm; وسعي إليه فيه كل من يلوذ به من علل الجهاز الهضميrlm;,rlm; وكل من يري فيه مظلة من الأمانrlm;,rlm; تقيه وتوجههrlm;,rlm; ويجد فيه أبوة حانيةrlm;,rlm; وأستاذية واثقةrlm;,rlm; ورعاية من طراز نادرrlm;,rlm; وتعففا يرقي به الي مستوي يفوق البشر الذين عرفناهمrlm;,rlm; من المنكبين علي الدنيا ومغانمها ومادياتهاrlm;,rlm; أما هو فكانت سعادته في شكر مريض أدرك علي يديه الشفاءrlm;,rlm; أو يائس فتح أمامه طاقات الأملrlm;,rlm; والقدرة علي الاستمرار في الحياةrlm;,rlm; أو حائر ـ بين اجتهادات الأطباء واختلاف تشخيصاتهم وأساليبهم في العلاج ـ وجد فيه هو ضالته المنشودةrlm;,rlm; ووضع ثقته فيهrlm;,rlm; وآمن بهrlm;,rlm; فكان شفاؤه علي يديهrlm;.rlm;
وثالثها أن مصطفي المنيلاوي كان مصريا وطنيا حتي النخاعrlm;.rlm; وهو في هذه المسألة بالذاتrlm;,rlm; يمكن أن يخرج علي طبيعته الهادئة السمحةrlm;,rlm; وينفعل ويغلي دمهrlm;,rlm; لإحساسه بأن إهانة ما قد وجهت إليه باعتباره مصرياrlm;,rlm; أو كان توجيه الإهانة الي وطنه مصرrlm;,rlm; في حضوره أو في غيبته عندئذ يصبح هذا الهاديء الباسم الودودrlm;,rlm; عنيفا غاية العنفrlm;,rlm; مدافعا بكل جوارحه وقسمات وجهه وبلاغة تعبيره عن كرامة الطبيب المصريrlm;,rlm; ونبوغه وعبقريتهrlm;,rlm; وريادته في الكثير من مجالات الطب علي مستوي العالم العربيrlm;,rlm; والقارة الإفريقيةrlm;,rlm; وكثير من بلدان آسياrlm;.rlm; وكان كلما عاد من ممارسة إحدي مهامه الطبية في بلد عربي ـ خاصة إذا كان هذا البلد يفاخر بإمكاناته المادية ومعداته ومنشآته وتقدمه التكنولوجي ـ بادر هو إلي المفاخرة بإمكانات الطبيب المصري وتفوقهrlm;,rlm; بالرغم من أنه لم يتح له من الإمكانات والمعدات والأجهزة المتقدمة ما أتيح للآخرينrlm;,rlm; مؤكدا أن رأس منظومة الطب هو الطبيب القادرrlm;,rlm; المزود بالمعرفة الخلاقةrlm;,rlm; والحدس الصائبrlm;,rlm; وليس مجرد الأجهزة والآلياتrlm;!rlm;
ورابعها ان الطبيب النابغة مصطفي المنيلاوي سليل المطرب الشهير منشد زمانه يوسف المنيلاويrlm;(1850rlm; ـrlm;1911)rlm; بل هو حفيده علي وجه التحديدrlm;.rlm; ولابد أن بعض جينات الفن ـ التي كشف عنها علم الهندسة الوراثية مؤخراrlm;,rlm; قد تسللت الي الحفيد فجعلت فيه بعض خصائص الجد الفنان وسماتهrlm;.rlm; والمنيلاوي المطرب والمنشد عاش بمنيل الروضة بالقاهرةrlm;,rlm; فلقب بالمنيلاوي كان ذا صوت رخيمrlm;,rlm; أخذ في بداية عهده فن إنشاد القصائد وأدوار المديح والذكر عن الشيخ محمد عبدالرحيم الشهير بالمسلوبrlm;,rlm; ثم مال الي الغناءrlm;,rlm; فأخذ عن الملحن المشهور محمد عثمان أكثر أدوارهrlm;,rlm; وانقطع عن الإنشادrlm;,rlm; إلا في المناسبات الدينية ومن قصائده المشهورة ـ في مجال الغناء ـ قصيدة ابن هانيء الأندلس التي مطلعها فتكات لحظك أم سيوف أبيك ثم وكؤوس خمر أم مراشف فيكrlm;.rlm;
ثم ان يوسف المنيلاوي سافر إلي الآستانة عامrlm;1888rlm; وغني للسلطان عبدالحميدrlm;,rlm; فأنعم عليه بالنيشان المجيديrlm;,rlm; وهو أول من سجلت أغانيه علي الاسطوانات التي كانت تعرف فيrlm;1908rlm; باسم سمع الملوك أعود إلي الحفيد الدكتور مصطفي المنيلاويrlm;,rlm; لأقول إن جزءا كبيرا من عبقريته كطبيب كان مرجعه الي هذه الطبيعة الفنية التي اكتسبها بالوراثةrlm;.rlm; وهي طبيعة لم تقف عند حدود الذائقة الفنية الرفيعة التي ميزته في تقييم ما يستمع إليه ويشاهده من ألوان الفن وبخاصة في مجال الموسيقي والغناءrlm;.rlm;
وإنما تعدت هذا المستوي إلي ما أسميه بالبصيرة الفنيةrlm;,rlm; والفن بصيرة ورؤيا وخيال واقتحامrlm;,rlm; وكانت هذه البصيرة الفنية تسبقه في كثير من الأحيان إلي الاكتشافrlm;,rlm; وإلي صدق التأمل والرؤيةrlm;,rlm; وإلي مقاربة الحقيقة ـ كثيرا ـ في التشخيص والعلاجrlm;,rlm; وإلي منح مساحة غامرة من المودة وفضاء رائع من المحبة والصداقة لكل من يقترب منه ويخالطه ويعاشره أو يعمل معهrlm;,rlm; من تلاميذه ومساعديهrlm;.rlm;
كثيرا ما اتسع وقته لحوارات طويلة معهrlm;,rlm; والألم يعتصره حزنا علي انحدار الفن الغنائي بصورة خاصةrlm;,rlm; وكان يستوقفه دائما معدل الانحدار عاما بعد عام في الكلمات والألحان والأصوات وأساليب الأداءrlm;,rlm; ولأن صباه وشبابه واكتمال نضجه شهدت جميعها ذري الإبداع في هذا الفن علي مدار الأربعينيات والخمسينيات وحتي الستينياتrlm;,rlm; قبل أن تصاب الاسماع بالصممrlm;,rlm; وتصاب الزائقة بالتلف وتصاب أسواق الفن بسيطرة غليظي الحس وسميكي الجلد ومحترفي السوقيه والابتذالrlm;,rlm; ومروجي كل ماهو هابط ومسفrlm;,rlm; وهادم للقيم والصحة النفسية والرجولةrlm;,rlm; في تنافس ضار من أجل سرعة دورة رأس المالrlm;,rlm; والاكتناز المسعور بلا نهايةrlm;.rlm;
كان مصطفي المنيلاوي هذا كله وأكثر منهrlm;.rlm; وبرحيله أفتقد صديقا عزيزا بسطت رعايته الطبية علي حياتي جناح الأمانrlm;.rlm; وطبيبا فذا عاش في غير عصره وزمانه ـ فكان من الطبيعي ان يؤثر الرحيلrlm;,rlm; الي عالم النقاء والصفاء والبقاءrlm;.rlm;
التعليقات