ملامسة ذهنية يعتريها ذلك التفكك الفكري ويسوقها التجريد المعنوي الذي يحفزنا لمراجعة تعريفنا لواقعنا التواصلي في كل أشكاله وإشكالياته، حيث إنه أصبح مفهوما من المفاهيم المركزية المتداولة في الفلسفة المعاصرة.. حيث شكل التواصل أحد المداخل الأساسية لفهم مختلف التفاعلات الإنسانية والاجتماعية في أبعادها المختلفة وهو الإطار الذي تحكم في النظريات العلمية التي اهتمت بالتواصل، خاصة في العصر الحديث من خلاله قياس مدى التأثير الذي قد تحدثه التغيرات التي طرأت على مفهوم التواصل أثناء ظهور ثورتي التكنولوجيا والمعلومات.

في هذا السياق، جاءت النظريات الحديثة للتواصل، لتصحح العديد من المفاهيم والتوجهات الخارجة عن مسار المفهوم الحقيقي للتواصل، بغية إعادة النظر في التوجهات السائدة، وصنع توجهات جديدة مبنية على المعرفة والنظرة التاريخية دون تحريف أو زيادة.

من هذا المنطلق، فإن عددا من المحدّثين قد اجتهدوا في وضع نظريات تواصلية مبنية على علوم مختلفة كعلم الاجتماع وعلم النفس والفكر الفلسفي، وجميعها تقترب وترتبط بعلم التواصل في التحليل والقياس والربط الاجتماعي. هذا مما أتت به الدراسات.. ولم يعد الاهتمام بالتواصل منحصرا في المجال التداولي المرتبط بتبادل المعلومات وتقنيات تبليغها وإيصالها هذا السياق البسيط الذي يتم ترديده.

ولكن عالم التواصل الكل يراه عبر قناعته معنى أن محتواه التعريفي مفخّخا بدءاً من مفردة "التواصل" ذاتها التي كانت، منذ وقت ليس بالبعيد، تعني الجانبَ الأدفأ والأوفر من العلاقة بين البشر، حيث كانت تصنع في عمقها وذاتها هالة مقيدة باعتبارات معتبرة ومحفوفة بالالتزام معنويا وعمليا ولكنها هي أصبحت اليومَ تسمّى فضاءً تواصليا يقتصر فيه الهدف على التشابك اللامحسوس في حقيقته وماهيته، وطغيان الاعتراك التجاري البليد.

نعم كان التواصل فيما مضى مبعثرا على معناه وفي حالة من الارتباط بخارج كان يتناسبُ مع قدرتنا على التعبير، ويمثل أساسَ إنسانيتنا. وممّا له بالتالي دلالة على نحو خاص هو استحواذ عالمنا الحالي على هذه الخصيصة الأساسية. فهل نعي بأن تعديلاً جذرياً يكمن في ذلك الاستحواذ إلى هذا الحد الذي يعمل فيه الآن على تغيير الطبيعة البشرية بوضع شهية الاستهلاك نفسي، مالي، معنوي، عاطفي، فكري" وبكافة أنواعه في الموضع الذي كان مكاناً نتواجد فيه على الدوام.

هذا التغييرُ لطبيعة التواصل، الذي هو قيْد التعميم، متأصلٌ إلى درجة أننا لم نعد نقيس تأثيره.. فنموُّه الشديد السرعة يلتبس بالحالة الإعلامية.

لقد أصبح التسارع مغريا في الواقع، وملتصقا بالتاريخ والمشهد التواصلي يمارس التدفّق الهائل ويزوّدُنا بحراك ساحر جشع يوقعنا في الحرمان ونحن لا نشعر.. تكمن هنا حقيقة ان التواصل من شذى المعرفة والإبهار فيما هي تشوّهه.

نرى إذاً كيف أن تحوّلاً جارفاً أخذ يحتل المكانَ وفي ظلّ عدم القدرة على تجاوز الواقع أو تجاهله، مع هذا الانتشار الواسع لوسائل التواصل، يبرز التحدّي الأكبر في القدرة على مواجهة العزلة المتوقعة حسن التفاعل التواصلي.. فليس المطلوب الصراع، أو مجابهة التغيرات بقدر ما يتوجب أن نكون في حالة التواصل الذي لا يلغي من نحن، ولا يغير سلوكنا الصادق.

لا شك أن التواصل عملية معقدة وتكمن طبيعة هذا التعقيد، وإبراز الرهانات والمفارقات التي تسم هذه العملية، فقد بات تعثر التواصل الحقيقي اليوم واقعا غير قابل للتجاهل، في حالة التشظي الحاصلة في بواطننا الفردية والجمعية وفي تزايد وضع النفور والتوتر القائم بينها.

لذلك الانشغال بالمسألة التواصلية مؤكد يفرضه السعي إلى تجاوز هذه الإشكالية والبحث أساسا في تأصيل حقيقي يضمن التواصل الفعلي بيننا.

ويبقى القول: الإنسان ليس معنيًا بالبقاء ساكنًا فحسب، بل نجده منشغلاً بجمع مصالح وتتبع قيم ومنافع يرتقي فيها لذلك فحالة التواصل المرتبك افتراضيًا تشكل عبئًا كبيرًا على تفاعلاته المتعددة خصوصًا في ظل التشعب وتشتت الوعي الذي جعل من التواصل البشري انفصالًا وعزلة.