تيسير بناء الكنائس وتعيين محافظ مسيحي خطوات جيدة لكنها laquo;ليست كافيةraquo;...
أقباط مصر ينهون عام laquo;المخاض الصعبraquo; بحوار متعثر مع laquo;الإخوانraquo; والدولة ومزيد من الانغلاق
القاهرة
قبل بضعة أشهر، لم يكن اسم أي من قيادات laquo;أقباط المهجرraquo; يرد في الصحف الحكومية المصرية، إلا مصحوباً بانتقادات يوجهها لهم بطريرك الأقباط البابا شنودة الثالث. لكن الصحف الرسمية هي نفسها التي حملت أخيراً إلى المصريين صورة أحد هذه القيادات وأخبار لقائه مسؤولين رفيعي المستوى laquo;لبحث مشاكل الأقباطraquo;.
وليست زيارة المصري الأميركي مايكل منير الذي رشحه الحزب الجمهوري لبرلمان ولاية فرجينيا للقاهرة ولقاؤه مسؤولين كثراً، بينهم مدير المخابرات العامة الوزير عمر سليمان ووزير الإعلام أنس الفقي وغيرهما، سوى خطوة في سياق تقرب الدولة من الأقباط خلال العام المنتهي الذي شهد حراكاً سياسياً ومجتمعيًا غير مسبوق، وطرح استحقاقات صعبة في ملفات الإصلاح والمواطنة وحقوق الإنسان، أعادت الملف القبطي إلى معترك الجدل اليومي في مصر.
على أن الحفاوة الرسمية في استقبال منير لم ترض أطرافاً قبطييـــن فــــي الداخل، تضرروا من أن يكون الحوار الحكومي - القبطي الأول مع أقباط المهجر، فهم قضوا عمرهم يطالبون النظام بفتح قناة حوار معهم للاستماع إلى مشاكلهم، لكن نداءاتهم لم تلق تجاوباً. وفي المقابل، هاجمت جماعات أخرى من أقباط المهجر منير باعتباره laquo;خائناًraquo; وشنت حملات عنيفة ضده.
وقد يبدو استقبال منير بهذه الحفاوة مفهوماً فــي سيـــاق سعي الدولة المصرية لتلافي الضغوط الأميركية، فهو كان انتهى لتوه من المشاركة في تنظيم laquo;مؤتمر أقباط المهجرraquo; بمشاركة أعضاء من الكونغرس الأميركي في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، إضافة إلى أنه قيادي صاعد في الحزب الجمهوري وسياسي مقرب من إدارة الرئيس جورج بوش.
وتضررت القيادات القبطية المدنية أيضاً من أسلوب تعاطي الدولة والكنيسة مع الملف القبطي. ففيما تعثرت الدولة في إدارة الأزمات الطائفية المتعاقبة، أدارت الكنيسة شؤونها بهذه الأزمات. فخرجت أقوى بعد كل منها، مثلاً: تسلمت زوجة الراهب التي اعتنقت الإسلام وفاء قسطنطين، ولم تعتذر عن مسرحية كنسية أثارت الفتنة في الإسكندرية. ولم يكن هذا سوى تكريس لسطوة الكنيسة التي يرفضها هؤلاء.
أما الكنيسة التي قويت شوكتها في أزمات متعاقبة اختبرت خلالها تسامح النظام مع تمدد نفوذها، فأطلقت قناة فضائية دينية تتولى إدارتها وتخضع لإشراف البابا شنودة الثالث مباشرة. وفي حين رفضت الدولة بث laquo;أغابيraquo; على القمر الاصطناعي المصري laquo;نايل ساتraquo;، لم تكترث الكنيسة للرفض، وأطلقت قناتها عبر القمر الأميركي laquo;تلستارraquo;، لتثير حفيظة كثيرين بينهم مفكرون اقباط علمانيون مثل الدكتور ميلاد حنا الذي يرى أن محتواها laquo;يشجع على الفرقة، وقد يؤدي إلى فتن طائفيةraquo;.
ويرى مهتمون بالشأن القبطي أن laquo;أغابيraquo; ستلعب دوراً في تكريس عزلة الأقباط وانغلاقهم على أنفسهم، عبر زيادة التفافهم حول الكنيسة التي صارت محور حياتهم، خصوصاً مع زيادة الأزمات والتراجع اللافت لدور الدولة في احتوائها أو في توفير الخدمات الاجتماعية التي صارت المؤسسة الدينية ملاذاً لتوفيرها مع تصاعد الضغوط المعيشية.
وبخلاف الدور الاجتماعي، برز الدور السياسي للكنيسة مع بداية العام الماضي، بعدما خرجت منتصرة من أزمة قسطنطين التي اعتنقت الإسلام، فاعتصم البابا وهدد بإلغاء احتفالات عيد ميلاد السيد المسيح عام 2005، ما لم تعد إلى الكنيسة.
ولعل استجابة الدولة لمطلب البابا وتسليمه السيدة قسطنطين ليودعها أحد الأديرة، هي ما دفع الأقباط إلى الاعتصام بعد أقل من ثلاثة أشهر في إحدى كنائس مدينة الفيوم (جنوب القاهرة)، احتجاجاً على اعتناق فتاتين الإسلام. وانتهت المشكلة بعودة الفتاتين إلى عائلتيهما.
بعدها، أخذت قضايا أسلمة المسيحيات في التفجر، واتهمت منظمات أقباط المهجر laquo;تنظيمات إسلاميةraquo; بتمويل أنشطة الأسلمة وإغواء القبطيات لترك دينهن، لكن الزوجة الشابة وفاء رأفت التي اعتصم عشرات في دير قاهري احتجاجاً على laquo;خطفهاraquo; عادت لتؤكد أنها هربت مع صديقها المسلم.
وتكرر السيناريو نفسه في قضية ماريان وكريستين نادر اللتين قالت منظمة laquo;الأقباط متحدونraquo;، وهي إحدى منظمات أقباط المهجر، إنهما laquo;خُطفتا وتعرضتا للاغتصابraquo;. وظهرت والدتهما على شاشة فضائية خاصة لتؤكد أنهما اختطفتا، قبل أن تظهرا لتعلنا أنهما أسلمتا وتزوجتا بكامل إرادتيهما. وحازت هذه القضية اهتماماً إعلامياً بسبب طلب الرئيس حسني مبارك البحث عن الفتاتين، عقب مشاهدته الحلقة.
وفي سياق لا يبتعد كثيراً من أزمات الأسلمة التي كانت غالبيتها مفتعلة، برزت قضية مسرحية laquo;كنت أعمى والآن أبصرتraquo; laquo;المسيئة للإسلامraquo; التي عرضتها إحدى كنائس الإسكندرية قبل عامين، ووُزعت نسخ منها على اسطوانات مدمجة مطلع شهر رمضان الماضي، لتشعل فتيل سلسلة من الاحتجاجات أمام الكنيسة، شهدت مقتل متظاهرين، وجرح راهبة، ومحام قبطي. ولم يعتذر البابا عن المسرحية، وأغلق ملف الأزمة التي ارتبطت بانتخابات برلمانية اختتمت عاماً من الزخم الإصلاحي.
بيد أن استحقاقاً أكثر جدية كان في انتظار الأقباط مع انطلاق الانتخابات، إذ لم يرشح الحزب laquo;الوطني الديموقراطيraquo; الحاكم سوى قبطيين فقط من أصل 444 مرشحاً له، ما أحبط البابا الذي قدم دعماً بالغاً للرئيس حسني مبارك في معركة الانتخابات الرئاسية في أيلول (سبتمبر) الماضي، ولم يكن يتوقع أن تنتهي الحال هكذا، خصوصاً وسط ما تردد عن تقديم الكنيسة لائحة بأسماء ثلاثين مرشحاً للانتخابات، طالبة دعم laquo;الوطنيraquo; لهم.
وزاد من فداحة الموقف أنه لم يفز سوى قبطي واحد هو وزير المال يوسف بطرس غالي، في مقابل 88 من أعضاء جماعة laquo;الإخوان المسلمينraquo; التي حققت نصراً برلمانياً غير مسبوق في تاريخها الطويل.
وفجر هذا الصعود الإخواني مخاوف قبطية، عبرت عنها قيادات دينية ومدنية، قد يكون أبرزها تصريح الدكتور ميلاد حنا بأن laquo;الأقباط سيحزمون حقائبهم ويرحلون عن مصر، إذا حكمها الإخوانraquo;. ولم تفلح التطمينات المتتالية التي بثتها قيادات laquo;الإخوانraquo; في تهدئة القلق القبطي.
وتعثر حوار قبطي - إخواني، رعته منظمات حقوقية ومنتديات فكرية. ولم يفلح laquo;الإخوانraquo; في تبديد مخاوف الأقباط أو إرضائهم، حتى عبر دعوتهم إلى ترشيح ألف قبطي في انتخابات البلديات على لوائح الجماعة.
ولم يكن laquo;الإخوانraquo; وحدهم في سعيهم لاستقطاب الأقباط، إذ أصدر الرئيس حسني مبارك قراراً يسهل عملية بناء الكنائس وإصلاحها وترميمها. وهذه كانت إحدى أبرز المطالب القبطية، إذ كانت قاعدة laquo;الخط الهمايونيraquo; المعقدة التي ورثتها الدولة المصرية عن الحكم العثماني، لا تزال تحكم بناء الكنائس وتتسبب في أزمات طائفية لا حصر لها.
على أن قرار مبارك الــــذي قضـــى بتفويـــض المحافظيـــن laquo;كل في دائرة اختصاصه، الترخيص للطوائف المسيحية بالموافقة على بناء الكنائس او اجراء تعديلات في كنيسة قائمةraquo;، لم يرض كثيرين اعتبروه التفافاً على مطالبة الأقباط منح تسهيلات أكبر لبناء دور العبادة. ولم يشفع له إلزامه المحافظين laquo;بوجوب البت في طلبات بناء او ترميم او توسيع الكنائس خلال ثلاثين يومًا من تاريخ تقديمها، ولا يجوز رفض أي طلب بهذا الشان إلا بقرار معللraquo;.
وعقب هذه الخطوة، عين مبارك خمسة أقباط ضمن عشرة نواب في مجلس الشعب، يخوله الدستور تعيينهم. قبل أن يتخذ قراره بتعيين اللواء مجدي أيوب إسكندر محافظاً لقنا، لينهي 40 عاماً من غياب الأقباط عن منصب المحافظ.
إلا أن التشكيل الحكومي الجديد لم يشهد زيادة في تمثيل الأقباط الذي اقتصر لعقود على وزيرين فقط، هما وزير المال غالي ووزير البيئة اللواء ماجد جورج، حتى أن الأقباط يتندرون على تخصيص حقيبة البيئة لهم في غالبية الوزارات التي شاركوا فيها. وخيب تشكيل الحكومة الجديدة أمالهم، معززاً ما يردده بعضهم عن laquo;شكلية الإصلاحات وعدم كفايتهاraquo; وما يؤكده أقباط المهجر من أن هذه الإصلاحات هي laquo;لذر الرماد في العيون، وتجنب الضغوط الأميركيةraquo;.
وعلى رغم أن الملف القبطي بات معقداً، فإن الأقباط صاروا الرقم الصعب في المعادلة السياسية المصرية: الكل يسعى إلى إرضائهم من دون جدوى، فيطوف نواب laquo;الإخوانraquo; على الكنائس مهنئين بعيد الميلاد، وتستقبل الحكومة قيادات أقباط المهجر، لكن البابا يبقى على رأس القرار القبطي متحكماً في مصير laquo;شعبهraquo; الذي يستخدمه في تكريس سلطات كرسيه... وعزلة أتباعه.
التعليقات