شيء ماد. حسن مدن
ينقل رجب إلينا حكاية مفادها ان حاكم هونج كونج منذ عدة عقود أراد ان يحاسب أحد كبار ضباط الشرطة الذي تورط في فضيحة فساد كبرى، فقرر الحاكم تشكيل لجنة مستقلة لمحاربة الفساد، ومن أجل ضمان استقلال وحيادية هذه اللجنة قرر أن ترقع تقريرها إلى الحاكم شخصاً وبشكل مباشر، كما قرر لأعضاء اللجنة مكافآت تزيد على ما يتقاضاها أمثالهم حتى لا يقعوا فريسة لإغراء الفساد، بأن يقوم المستهدفون بالتحقيق برشوتهم بمبالغ كبرى لضمان ألا يأتي التقرير لغير صالحهم، كما تضمن قانون تشكيل هذه اللجنة العليا استقلال اعضائها عن السلطة التنفيذية، وعدم جواز عزلهم أو نقلهم وحظر اشتغالهم في أعمال حرة أو مشاركة رجال الأعمال إذا استقالوا أو تركوا عضوية اللجنة لأي سبب، القانون اعطى اعضاء هذه اللجنة سلطات كاملة للتحقيق والاتهام ومخاطبة الرأي العام بكل وسائل الاعلام لتوعية الجمهور برفض الخضوع لابتزاز الفاسدين من الموظفين والابلاغ عنهم دون تردد أو خشية من بطشهم، ولكي يدلل الحاكم على حدية هذه الوقفة اختار لرئاسة اللجنة شخصاً معروفاً بالنزاهة والاستقامة وبعيداً عن الشبهات.
لكن كل هذه الضوابط والمعايير والصلاحيات لم تحم اللجنة من الضغوط، إذ مارس كل أصحاب النفوذ وسائل التأثير المختلفة على اعضاء اللجنة، وحوربت جهودهم من قبل الأجهزة الحكومية المختلفة المتورطة في الفساد لإعاقة عملهم والحيلولة دون بلوغ الحقيقة، الذي يستلزم الوصول إلى الوثائق والبيانات والوقائع الضرورية التي تكشف مكامن الفساد، وفي نهاية المطاف اضطرت اللجنة الى التراجع أمام سطوة الفاسدين، وتغلغل نفوذهم داخل الجهاز الحكومي وفي المجتمع، ورضت اللجنة من الغنيمة بالإياب، حيث اضطرت أخيرا الى إسقاط تهم الفساد، وتحولت الى لجنة لنشر ثقافة الطهارة والقيام بحملات لتوعية المواطنين وتحذيرهم من الوقوع في شركة الفساد، أما حجم المعلومات الذي استطاعت اللجنة جمعه عن الفساد، وهو حجم ضخم، فقد وضع تحت تصرف الحاكم الذي استخدمه أداة للضغط على خصومه!
هذه الحكاية وردت أساساً في تقرير للبنك الدولي ساقها مثل على ما يمكن للفساد أن يكون عليه من استشراء، بحيث انه حتى محاربته لا تعدو ممكنة، لأن أي جهاز اداري للتحقيق فيه لن يتمكن من بلوغ مهمته بالسهولة التي نظنها حتى لو كان اعضاء هذا الجهاز يتمتعون بالنزاهة والاستقامة وشرف الضمير.
لا تحتاج شرور الفساد الى المزيد من الشرح، انها آفة تعيق التنمية وتمثل تطاولاً على المال العام وانتهاكاً لحرمته، لكن من أبلغ ما قرأت في توصيف الفساد، تشبيه رجب البنا له بأنه مثل الانفلونزا، ولا علاقة للأمر بانفلونزا الطيور التي حطت الرحال أخيرا في تركيا وسط تحذيرات من إمكانية عبورها للضفة الاخرى من المتوسط، لأن هذا التشبيه اطلق قبل ظهور هذا النوع من الانفلونزا، لكنه بالغ الدلالة، ذلك أن الانفلونزا تملك إمكانية قلّ نظيرها في الانتشار والعدوى، وأكثر من ذلك فإنها تبدأ عادة باختراق الأجسام ضعيفة المناعة، شأنها شأن الفساد الذي يعم حيث يغيب القانون والرقابة الشعبية والثقافية في الأداء المالي والإداري في الحكومات والمجتمعات.
التعليقات