حازم صاغية


تتعاظم اليوم المشكلة المفتوحة بين حركتي quot;فتحquot; وquot;حماسquot; الفلسطينيتين، حتى ليبدو للأسف وكأنّ باب التسويّة أُغلق تماماً بينهما ولم يتبقّ إلاّ انتظار لحظة الانفجار المدوّي. وهو ما تزداد مأسويّته لدى تذكّر الاحتلال الإسرائيليّ واستمراره وضغطه على الفلسطينيّين بغضّ النظر عن خلافاتهم، ورغم أن الطرفين يقولان إن ذاك الاحتلال هو عدوّهما المشترك، وليس أحدهما تجاه الآخر.

وقد يكون طبيعيّاً أن تحجب الفوارق السياسيّة (والأمنيّة والماليّة الخ) الراهنة بين الحركتين، خلافات أخرى تتّصل بالخلفيّة النظريّة والإيديولوجيّة اللتين تصدران عنها، خصوصاً أن الوضع الحاليّ لا يحتمل التطرّق إلى مسائل أشدّ تعقيداً. لكن مع هذا تبقى العودة إلى الخلفيّة المذكورة مفيدة لإضاءة النزاع في جوانبه كافّة، وأكثر هذه الجوانب عرضةً للتعتيم أو للنسيان.

والحال أنّ في وسعنا العثور على الأساس المبكر، وبمعنى ما التأسيسيّ، لذاك النزاع المديد، لدى إجراء بعض المقارنة بين ميثاقي quot;منظّمة التحرير الفلسطينيّةquot; لعام 1968، وحركة quot;حماسquot; المتفرّعة عن تنظيم quot;الإخوان المسلمينquot; في فلسطين. فهنا يتبيّن حجم المسافة الهائلة من التردّي التي قطعها الوضع العربيّ، لا سيّما منه الفلسطينيّ، خلال عقدين اثنين فحسب.

فمن الفوارق أن ميثاق quot;منظّمة التحريرquot;، ورغم الطباع العشائريّة وغير الديموقراطيّة التي عُرف بها الرئيس الراحل ياسر عرفات، خضع لنقاش وتعديل وربما تصويت أيضاً. هذا بينما تولّى قادة الحركة الإخوانيّة الفلسطينيّة إشهار ميثاق quot;حماسquot; وإعلانه على الملأ في ضربة واحدة، ضربةٍ لا قبل لها ولا بعد. وإذ قُدّم ميثاق quot;المنظّمةquot; بوصفه صنيع بشر، والبشر تعريفاً يصيبون ويخطئون، قُدّم ميثاق quot;حماسquot; بصفته صنيع الله وكلامه ومشيئته، الأمر الذي ينمّ عن تمثيل غير جائز للخالق، تمثيلٍ يستخدمه أصحابه (قادة quot;حماسquot; في هذه الحال) لتعطيل النقاشات وحسمها على النحو الذي يرتأونه، أو يناسب تصوّراتهم وربّما مصالحهم أيضاً. ثم إن ميثاق quot;المنظّمةquot; يتحاشى التهجّمات اللاساميّة المباشرة على اليهود، مركّزاً على الصهاينة والصهيونيّة، بينما ينطلق ميثاق quot;حماسquot; من التنميط اللاساميّ المعهود والمستقى من الأدبيّات العنصريّة المسيحيّة تجاه اليهود. وهو، في هذا المعنى، لا يتردّد في الاتّكاء على تلك الأدبيّات وترجمتها وتعميمها، فضلاً عن الاستشهاد بها وquot;تثقيفquot; المناضلين الحماسيّين بموجبها، بما في في ذلك الاستشهاد بكتاب quot;بروتوكولات حكماء صهيونquot; الذي أصبح مرجحاً أنه من فبركة البوليس القيصريّ الروسيّ وتزويره.

وبينما ميثاق quot;المنظّمةquot; مُصاغ بلغة سياسيّة، فإن ميثاق quot;حماسquot; مصاغ بلغة دينيّة يراد منها أن تضفي عليه القداسة، بحيث تُشتَقّ السياسة نفسها من الدين تبعاً لتأويل quot;حماسquot; له. وإذ يخاطب الأوّل البلدان العربيّة ويحضّها على دعم الشعب الفلسطينيّ ومساندة قضيّته، فإن الثاني يخاطب الأمّة الاسلاميّة، بالقفز فوق رؤوس العرب أجمعين.

وبدوره، لا يلغي الأوّل الجوانب التنظيميّة والمؤسسيّة، بل هو يفتح الباب لاحتمال التدرّج في بلوغه غرضَه، مدخلاً المرونة والمرحليّة على مفاهيم التحرير والاستقلال وإقامة الدولة. فإن الثاني، وعلى العكس تماماً، يقيم مرّةً واحدةً كياناً كاملاً محلّ كيان آخر، حيث الانتقال من إسرائيل الى فلسطين لا تتوسّطه مراحل أو دول وسلطات تقوم على جزء أو آخر من أرض فلسطين التاريخيّة. كذلك يقترح الأوّل ما يراه حلاّ لمشكلة اليهود (خفض عددهم ومنح من يتبقّى منهم في فلسطين حقوقاً سياسيّة)، أمّا الثاني فلا يعرض عليهم غير الوضعية quot;الذميّةquot; كما كان معمولاً بها في الزمن العثمانيّ.

وليس القصد من المقارنة هذه تأييد برنامج على حساب آخر، خصوصاً أن برنامج quot;منظّمة التحرير الفلسطينيّةquot; يرجع الى ما قبل قرابة أربعة عقود. وفي الأحوال كافّة، فإن البرامج ليست عاصماً من الأخطاء والقصور، بدليل ما ارتكبته quot;المنظّمةquot; وفصائلها، ولا تزال ترتكبه، على مدى تلك السنوات الفاصلة.

بيد أننا لا نملك إلا ملاحظة بعض المسائل وفي عدادها عنصر الزمن: فـquot;منظّمة التحريرquot; التي ولدت عام 1964، ابنة حقبة غنيّة بالاحتمالات، حيث اندمجت تأثّرات، تتكامل أحياناً وتتضارب أحياناً أخرى، بالفكر الغربيّ وبالتجربة الناصريّة وبالماركسيّة اللينينيّة وبدعوة الحياد الإيجابيّ وعدم الانحياز وبالنظامين الاقتصاديين الاشتراكيّ والرأسماليّ سواء بسواء. وهذا جميعاً معطوفاً على وطنيّة فلسطينيّة تسمح بتعدّد الاتّجاهات، وعلى وعي إسلاميّ ممتزج بوعي عروبيّ. وكان لرموز شديدي التنوّع، من نهرو الهندي إلى تيتو اليوغوسلافي، ومن ماو الصينيّ إلى غيفارا الأميركيّ اللاتينيّ، تأثيرهم على ذاك الجيل وتطلّعاته. أما quot;حماسquot;، وعلى رغم نسبها الإخوانيّ، فهي، بصفتها هذه، ابنة حقبة ما بعد انهيار الوعود الكبرى، وتحديداً ما بعد هزيمة يونيو 1967 وقيام الاحتلال الذي وضع فلسطين التاريخيّة كلّها في نطاق السيطرة الإسرائيليّة. وانهيار الوعود الضخمة هو ما طال شعارات لا حصر لها، أكان منها ما خصّ الوحدة العربيّة وتحرير فلسطين، أم ما تعلّق بالعدالة الاجتماعيّة والمساواة، ناهيك عن الاقتناع الذي كان سائداً ببناء علاقات سويّة مع الغرب يتخلّلها تسليم مشترك، ولو من موقع الخلاف السياسيّ، بمقدّمات الحداثة ومعطيات التنوير.

لكن العنصر المذكور، أي طبيعة الزمن، له تتمّات وتداعيات أخرى: ذاك أن الجيل الذي أسّس حركة quot;فتحquot; وقادها، بوصفها العمود الفقريّ لـquot;منظّمة التحريرquot;، عاش وعرف التجارب السياسيّة الممتدّة ما بين أواخر الأربعينيات والستينيات، بما فيها من هزائم ولكنْ أيضاً بما فيها من استقلالات عربيّة نيلت، وكان الاستقلال الجزائريّ أكثرها ملحميّة. كما أتيح للجيل ذاك التعرّف إلى بلدان عربيّة عدّة، وأحياناً غير عربيّة كذلك. وهذا جميعاً ما لم يُقيّض لشبّان quot;حماسquot; الذين انخرطوا في الشأن العام في ظلّ الاحتلال والعزلة عن العالم الخارجيّ، ولكنْ أيضاً في ظلّ صعود ثقافة quot;الهويّةquot; المحليّة المكتفية بذاتها، والتي لا تحتاج إلى أن تتعلّم شيئاً من أحد، أو أن تتّعظ بتجربة خارج بلدها وحدودها.

وهذا بدوره، انطوى على فوارق في التعليم كمّاً ونوعاً، وفي المثالات التي تُحتذى: ففي تلك الغضون انكمش القائد السياسيّ (الذي كان عبد الناصر مثلاً) لمصلحة رجل الدين (على ما ابتدأ مع آية الله الخمينيّ لدى انتصار ثورته الإسلاميّة عام 1979، وصولاً إلى الشيخ الفلسطينيّ الراحل أحمد ياسين).

من هنا ندرك كيف أن quot;منظّمة التحريرquot; كانت مضطرّة للانتباه إلى ما يجري حولها في العالم، من ضرورة مسايرة الاتحاد السوفييتي الذي يمدّها، هو وبلدان معسكره بالسلاح، إلى أخذ الحساسيّة الأوروبيّة تجاه العنصريّة ومحرقة اليهود بعين الاعتبار، فضلاً عن مراعاة الظهور، في نظر العالم، بمظهر الطرف الديموقراطيّ حتى لو انطوى ذلك على افتعال لا تخطئه العين. وعلى عكس quot;حماسquot;، أدركت quot;المنظّمةquot;، وقد احتكّت بالتجارب الناصريّة والبعثيّة، سلباً وإيجاباً، أنه لن يكون في وسعها القفز فوق الحلقة العربيّة التي تشكّل بعض روافد العواطف السياسيّة العربيّة، كما تؤمّن لها المدد الماليّ الرئيسيّ، وإن صدر عن تلك الحلقة كثير من المشاكل والإشكالات التي دفع الفلسطينيّون ثمنها غالياً. وفي المعنى نفسه، لم تكن quot;المنظّمةquot; تملك كماليّات النظر إلى العالم بوصفه كلّه quot;ضدّناquot; وعلينا أن نكون كلّنا quot;ضدّهquot;. فقد بُذل اهتمام جدّيّ بالديبلوماسيّة، وبلعب ورقة أوروبا في مقابل الولايات المتّحدة، ومحاولة الانفتاح على الولايات المتّحدة نفسها والرهان على توسيع المسافة التي تفصلها عن إسرائيل. لا بل حتى في الدولة العبريّة، أنشأت quot;المنظّمةquot; خيوطاً وخطوطاً تربطها بالقوى الإسرائيليّة الأكثر استعداداً للتسليم بالحقّ الفلسطينيّ. وهذا جميعاً غائب عن الوعي الحماسيّ، يزيد غيابه مع الاقتصار في بناء الصداقات الخارجيّة على إيران وسوريا. ولما كانت الدولتان هاتان في علاقة ضدّيّة بمعظم العالم الخارجي، غدا طبيعيّأً أن تجد ضديّةُ quot;حماسquot; ما يعزّزها في ضديّة حلفائها الكبار.

إنها صفحة يُستحسن عدم طيّها، بل استدعاؤها، لدى التفكير في الخلافات الكبرى والساخنة التي تخاض اليوم.