عادل درويش


صادف يوم أمس الجمعة السادس من اكتوبر الذكرى الخامسة والعشرين لرحيل الرئيس المصري انور السادات، برصاص الارهاب الذي لا يزال يهدد العالم اليوم.

كان صاحب بصيرة ثاقبة يرسم استراتيجية توقعات ببعد نظر زرقاء اليمامة ، متوقعا القادم الذي عجز عن رؤيته قصار النظر والقامة ـ كان يسميهم بالأقزام ـ حوله.

حياته التي قضاها، مناضلا من اجل الأمة المصرية والمحافظة على ارواح ابنائها، حدودها ونيلها ومواردها، ازدحمت بتقديرات مستقبلية . وحادثة موته، بالمثل، كانت نبوءة لما كان يخطط له منظرو الظلام والقوى الغاشمة التي تتربص بالأمة المصرية، وتريد تغطية عقول ابنائها وبناتها بعبائة التخلف والرجعية والقهر، لأنها ادركت ان استهداف مصر بالضرر يعني ايذاء الشرق كله. ففي قصيدة شاعر النيل، حافظ بك ابراهيم، الخالدة، مصر تتحدث عن نفسها، يقول البيت الرابع laquo;أنا إن قدر الاله مماتي....لا ترى الشرق يرفع الرأس بعديraquo;. ويوم اغتال الإرهابيون الزعيم الوطني المصري هلل ثالوث الشمولية الظلامي: الاسلاميون الأصوليين؛ والقومجية من بعثجية وناصريين وقذافيين وأشباههم؛ والستاليون الماركسيون (وكان السادات قد بشرهم بوفاة سيدهم الاتحاد السوفيتي قبل ان تفارقه الروح بـ 17 عاما)، فرحوا في شماتة أطفال متخلفين عقليا، بدلا من الانتباه لطوفان الإرهاب القادم الذي سرق راية الاسلام ولا يزال يريد بالمحروسة اشد الإيذاء والضرر.

وخلافا لمغالطة ان السادات تعرض للاغتيال بسبب السلام مع الدولة اليهودية، وبالخروج عما يسميه القومجية laquo;بوحدة الصف العربيraquo;، فان اغتياله كان يستهدف حرمان مصر من صاحب الرؤية المستقبلية كمحاولة لإبقاء مصر في أسر الشمولية.

فاختلاف السادات، تاريخا ومضمونا عن بقية العسكر تحت لافتة laquo;الضباط الاحرارraquo;، هو حقيقة تاريخية وموثقة. فالضباط بزعامة اللواء (الجنرال) محمد نجيب والبكباشي (الكولونيل) جمال عبد الناصر والبكباشي عبد الحكيم عامر، والصاغ ( الميجور) صلاح سالم، جاءوا، ببذاتهم العسكرية النظيفة فوق الدبابات ليطيحوا بالحكومة الشرعية ويستولوا على الدولة الدستورية.

فقط السادات كان مناضلا دائما مدنيا وسط الجماهير عرف السجون والمعتقلات في كفاحه ضد الوجود العسكري الإنجليزي في مصر وناضل فقيرا، حاملا السلاح مع رفيق كفاحه المرحوم المهندس حسن عزت، تسترا كمقاولي نقل، وهما يحاربان الانجليز مع الفدائيين المصريين، وهو ما لم يختبره بقية الضباط الأحرار.

الحقيقة ان السادات، كمصري اصيل وهب حياته كلها لمصر، ولم تجر في عروقه، وراثيا، غير دماء وادي النيل، فكان ابوه مصريا ابا عن جد، وامه سودانية من جنوب الوادي، ولذا كان اول خطواته بعد توليه الرئاسة، هو استعادة اسم مصر الذي سرق منها لثلاثة عشر عاما في الوحدة مع سوريا ـ والتي كرهها اغلب المصريين، فرد عبد الناصر على الشعب بالزج بآلاف الرموز الوطنية من اليسار واليمين في معتقلات طرة والقناطر والوادي الجديد لسنوات ـ . وكان السادات انتبه للخطر القومجي الذي حاول، ولا يزال يحاول طمس الحضارة المصرية وتذويب الهوية المصرية في كيانات وهمية لا وجود حقيقي لها في القانون الدولي، او واقع التاريخ والجغرافيا.

اهتدى السادات بافكار جيل نهضة مصر ومفكريها وتلاميذ استاذ الجيل احمد لطفي السيد، فاتخذ خطوات اساسية قبل ان يبدأ مسيرة تحرير ارض مصر المحتلة في سيناء، بعودة الروح وعودة الوعي الى الأمة المصرية.

وعمت الفرحة البلاد عندما القيت لافتة laquo;الجمهورية العربية المتحدةraquo; في مزبلة التاريخ، ليعود اسم اعرق وأقدم امة في التاريخ laquo;مصرraquo;، وصاحب ذلك بداية تقويض الدولة الستالينية البوليسية التي ارتكزت دعامتي على الاتحاد الاشتراكي البعثجي الاتجاه؛ ومخابرات صلاح نصر. وكان احتفال حرق اشرطة التصنت والتجسس على الناس، وقدم نصر واعوانه للمحاكمة، وظهرت فضائح لا مثيل لها.

استعادة اسم مصر ورفع خوف الدولة البوليسية عن المصري البسيط، ساعد على اطلاق الطاقات الخلاقة المصرية المتوارثة لآلاف السنين، فزحف الآلاف من احفاد رمسيس وخوفو واحمس يعبرون القنال ويذيبون الصعاب تحت مظلة اسراب قائد الطيران محمد حسني مبارك وكأنها جناحا laquo;حورسraquo; يبسطهما فوق الأحفاد لاستعادة كل حبة رمل مصرية.

والمصري لا يحب الحرب والعنف والتطرف كثقافة غريبة دخيلة على مصر، فالمصري، كما تعود لسبعة آلاف عام، نشيط يركز طاقته في الزراعة والإنتاج والابتكارات التي يسير عليها العالم المتطور اليوم، وفي فصول انخفاض مياه النيل، ينصرف المصري للبناء وتشييد الحضارة بانجازات يقف امامها التاريخ في دهشة. وانجازات المصري في عصور ريادة مصر وليس تبعيتها، تمتد لتشمل الجيران ومنطقة الشرق الأوسط كلها. ففي عهد رمسيس الثاني امتدت حضارة مصر من هضبة الأناضول حتى القرن الأفريقي، وهى لا تزال كامنة في روح المصريين اليوم، الذين اصطفوا بمئات الآلاف على جانبي طريق نقل تمثال الفرعون العظيم من وسط القاهرة حتى الجيزة قبل شهرين.

فالسادات، كمصري جرى في عروقه هذا التراث العظيم، كانت الحرب بالنسبة له وسيلة، لتحقيق هدف محدد وليست غاية في حد ذاتها واذا امكن تحقيق الهدف نفسه بوسائل اخرى، فيمكن اذن تجنب اراقة الدماء المصرية وغير المصرية، والتوصل للسلام مع الجيران، وتوجيه الطاقات والموارد نحو الإعمار والرخاء. ولذا فضل الدبلوماسية، التي انجزت ما لم تنجح فيه الحروب.

وعكس السادات رغبة المصريين جميعا بالتعهد الا يحارب الجيش المصري مرة اخرى الا دفاعا عن مصر ومصالح مصر فقط، وهو تعهد قائم حتى اليوم ـ باستثناء تلويح السادات في منتصف السبعينات بارسال laquo;فرقة كشافةraquo; لتأديب ولد مشاغب على الحدود الغربية ظن ان دنانير البترول قد تجعل من قبيلته ندا لمصر!

وعندما أصر السادات على ان يحضر وفد فلسطين باسم فلسطين تحت علم فلسطين في مفاوضات مينا هاوس، لم تكن في الضفة الغربية او غزة مستوطنة اسرائيلية واحدة. لكن فضل الفلسطينيون توجيه السباب لمصر وزعيم مصر من راديو صوت فلسطين الذي يموله دافع الضرائب المصري، والذي مول ـ نقدا ودماء ـ حروب الجيش المصري من اجل فلسطين، بدلا من التفاوض بجانب السادات لاستعادة من اراضيهم اضعاف ما يحاولون اليوم على استعادة بعضه! وانخدع الفلسطينيون وقتها بشعارات وزعيق اصحاب التعبيرات البلهلوانية، laquo;كالصمود والتصديraquo; وlaquo;جبهة الرفضraquo;، في حين ان العقلاء من زعماء المنطقة في السعودية والأردن والمغرب والإمارات والكويت هم في الواقع الذين قدموا، ولا يزالون يقدمون الدعم الحقيقي والعون للفلسطينيين.

اما اصحاب المشروع الرجعي التخلفي الإظلامي الذي يتربص شرا بمصر منذ قرون، وصده قادة مصر الموهوبين ابتداء من احمس حتى محمد علي باشا الكبير، فرأوا في زعامة السادات واستراتيجيته، واصلاحاته الدستورية التدريجية في مصر خطرا كبيرا على مصالحهم وخطتهم لبسط الهمجية والتخلف كما رأينا في افغانستان الطالبان. وربما يختلف المؤرخون حول سؤال: لماذ لم يستقل السادات من الدولة البوليسية في عهد عبد الناصر؟

ولكن ألم يسفر انتظار السادات الفرصة، بصبر المصري الفريد، عن 33 عاما من السلام في مصر؟