رشيد الخيون


لاختلاف الأَهِلَّة بين العراقيين، شيعة وسُنَّة، ماضٍ وتقليد، لا يقل شأناً عن اختلافهم في الأذان، ويرتبط ذلك بخلاف أعقد، ألا وهو خلاف الإمامة. فعلى الرغم من تقادم الزمن على الحدث المفترض حول هذا الأصل إلا أن الهواجس المخيفة ما زالت تتوارث، وكأن القوم ما زالوا قياماً في السقيفة! وها هم العراقيون عاشوا ويعيشون الأسوأ من حواشيها، فبعد القبور الجماعية، تبادل القتلة من الطائفتين ذبح الآمنين على الهوية!

كان الاختلاف حول رؤية الهلال واحداً من متعلقات ذلك الأصل، وظفتها السياسة لتبقي باب التراحم موصوداً، وإلا ما سر أن يستهل رمضان، وسيستقبل العيد، تحت سماء واحدة، بأكثر من هلال؟ وهنا لا أتحدث عن الخلاف بين الدول الإسلامية، فلكل دولة غيومها ومحجبات هلالها، لكني أتحدث عن الخلاف تحت سماء بلد واحد، ومناخ واحد، وقد تدرج الخلاف ليكون داخل مدينة واحدة. ولا ندري إذا كانت هذه بادرة غير مسبوقة بالنجف أم لا؟ فقد أعلن آية الله علي السيستاني أن يكون يوم الأثنين أول أيام رمضان، بينما أعلنه آية الله بشير النجفي الأحد! وكان الوقف السُنَّي أعلنه السبت. ويبدو شأن الهلال ليس من اختصاص الوقف الشيعي بوجود أكثر من مرجعية: رشيدة، وصامتة، وناطقة، وغيرها من مسميات انعكاس السياسة على الدين والمذهب.

لا شك، أن مسألة إثبات رؤية الهلال مسألة فرعية لا أُصولية، أي فقهية لا عقائدية، حتى لا يمكن الاتفاق حولها! تثبت عند فريق من الفقهاء عبر العين المجردة حسب، ويجوز إثباتها عند آخرين بالعين المسلحة بآلات الرؤية، بما فيها الكمبيوتر، أو استخدام الطائرة مثلما حصل بإيران. وحسب جهاز الرؤية والحساب جاءت تسميتي: رمضان الفلكي، ورمضان الشرعي. الأول: 29 يوماً، و12 ساعةً، و44 دقيقةً. والثاني: لا يقل عن 29 يوماً ولا يزيد عن ثلاثين يوماً. وكان أبرز مراجع النجف أبو القاسم الخوئي (ت 1992) لا يقر الرؤية بالعين المسلحة ولا بحساب رمضان الفلكي. قال: laquo;لا يمكن نيابة العيون المسلحة والآلات الرصدية، وحساب المنجمينraquo;. فالحديث يقول: laquo;افطروا لرؤيته وصوموا لرؤيتهraquo;. كذلك لا يقر الخوئي إثبات رؤية الهلال laquo;بحكم حاكمraquo;(المسائل المنتخبة). بينما أجاز تسليح العين تلميذه آية الله السيستاني.

كان يوم الترقب، الذي يُعرف بيوم الشك أو التردد، يوماً ساخناً بالعراق، قد يضطر المكلف الشاك بصومه خارج عدة رمضان. وحسب هذه الإجازة صام الكثيرون من مقلدي المراجع الشيعية مع صوم (الحكومة)، لكنهم لم يعيدوا بعيدها. وبينما كان مفتي بغداد يطل ببيانه مهنئاً الشعب والحكومة، طوال العهود السابقة، ينتظر النصف الآخر من العراقيين فتوى مرجعية النجف للصوم الواجب، أو الإفطار الواجب عند رؤية هلال العيد. وبسبب تعثر وسائل الاتصال كثيراً ما كان يعلن الصوم، في الأمكنة القصية، بعد منتصف الليل، أو يُعلن العيد في رابعة النهار. وكانت تسمية عيد الحكومة تسمية سائرة بين شيعة العراق، ولا أجدهم يحتاجون إليها اليوم، فالدولة قدمت تهنئتها من دون تحديد يوم الصيام، ولا أدري ما هي فاعلة في تحديد عطلة العيد؟

لم يبق الخلاف حول رؤية الهلال محصوراً بين الشيعة والسُنَّة، بل شهدته بغداد بين المذاهب السُنَّية نفسها يوم كان الخلاف معتملاً بينها. روى ابن الجوزي (ت 597هـ) في أحداث العام 448هـ: أن شريفاً من أولاد الخليفة المهتدي بالله أعلن العيد حسب تعاليم المذهب الشافعي في رؤية الهلال، فقال قاضي القضاة: laquo;أما مذهب أبي حنيفة، الذي هو مذهبي، فلا تقبل مع صحو السماء، وجواز ما يمنع من مشاهدة الهلال إلا قول العدد الكثير الذي يبلغ مائتين. وأما مذهب الشافعي، رضي الله عنه، الذي هو مذهب هذا الشريف فإنه يقطع بشهادة اثنينraquo;(المنتظم). وأخذ الخليفة، وهو القائم بالله (ت 467هـ)، برأي قاضي القضاة، فأمر laquo;بالنداء أن لا يفطر أحد! فأمسك مَنْ كان أكلraquo;.

صحيح، أن الفقهاء لم يتشددوا في رفض صوم الآخرين، بل أحسنوا الظن في طرق الآخرين في رؤية الهلال، إلا أن بلداً مثل العراق، تهتز فيه الهوية، وتُخترق فيه ثوابت الجغرافيا، وتمزقه الميول والاتجاهات يحتاج إلى محاولات الفقهاء ومراجع الدين لتوحيد الأتباع بصيام وعيد. مع أن القضية ليست مفصلية، ومهما طال الخلاف حولها فهي تبقى، كما أسلفنا، فرعية لا أُصولية. فإذا كان تعدد الأَهِلَّة بسبب خلاف بين عثماني ـ صفوي، وهو خلاف سياسي خارج ثوابت الدين، فلم يعد الظرف يحتمل وجود هلالين في سماء بغداد. ومعلوم، كم جرى النقاش والعراك حول إطلاق التسمية الهلال الشيعي بقياس جغرافي، يمتد من إيران ويضرب قوسه على جنوب العراق ووسطه، لا قياس فضائي مؤقت ذي منازل.

وبالمحصلة، أن الأَهِلَّة ليست كغيرها من الأشياء، فهي أجمل ما يُرى في السماء، وأسرع إلى العاطفة والذاكرة من غيرها، وتحسن برؤيتها النوايا، وتقاس بها الأزمنة، ويؤرخ بها للحوادث. لهذا تبدو خطورتها في التمايز الطائفي أمضى من غيرها. هلال شيعي وآخر سُنَّي، والله أعلم إذا قُدر للكورد الشافعيين، والتركمان الحنفيين التمايز بمواقيت لهلاليهما، فالرؤيا من قمة الجبل أسرع وأوضح من رؤية البطاح والسهول. ليست نيتي تضخيم حدث الاختلاف في الصوم والأعياد، فمَنْ يرى الهلال يصوم، أو يعد ثلاثين يوماً ويفطر، هذا ببساطة الدين والفقه خارج السياسة ومقاصد التناحر، بيد أن دماء العراقيين توجب خفض الخلاف إلى ما تحت الهلال، ولو اجتمع العقلاء الأتقياء ورمقوا هلالاً واحداً، فلا سُحب ولا أغبرة الدنيا تحجب رؤيته.

كان العام (244هـ)، علامة فارقة في تاريخ بغداد في كل الأزمنة، عندما اتفق ميقات أعياد الناس: laquo;الأضحى وفطير اليهود وعيد الشعانين للنصارى في يوم واحدraquo;(ابن تغرى، النجوم الزاهرة)، ليته تكرر وأُقر تقليداً بين طائفتي المسلمين.