منذ أكثر من عامين، طالبت على صفحات هذه الجريدة باستقالة وزير الدفاع الأميركي، دونالد رامسفيلد، في مقال بعنوان laquo;سيدي الرئيس: اطرد رامسفيلد وزمرتهraquo;، (بتاريخ 13 مايو 2004)، كما طالبت في المقال ذاته بإقالة الرجل الثالث في البنتاغون، الذي يعتبر مهندس حرب العراق، دوغلاس فايث. وكانت رؤيتي حينها، كما هي الآن، أن رامسفيلد ورجاله، ساهموا بخياراتهم الاستراتيجية في عدم الاستقرار في منطقة حيوية كمنطقة الخليج، وأن الوقت قد حان لأن يتولى زمام الأمور، رجال يتسمون بالواقعية وينأون بأنفسهم عن مثالية المحافظين الجدد، الداعية الى تغيير المنظومة القيمية في منطقة الشرق الأوسط بأكملها. لم تستمع الإدارة إلى نصائح كهذه منذ أعوام، حتى جاءت ضربة فوز الديمقراطيين الكاسح في مجلسي الكونغرس الأميركي، التي أدت إلى استقالة رامسفيلد من منصبه وزيرا للدفاع، وترشيح رئيس المخابرات المركزية الأسبق، روبرت غيتس، بديلا له.

جاءت استقالة رامسفيلد استباقية كحروبه التي شنها. فهو كان يعلم أن أولى توصيات مجموعة العمل حول العراق Iraq Study Group))، برئاسة وزير الخارجية الأميركي الأسبق، جيمس بيكر، هي تغيير الاستراتيجية الأميركية تجاه العراق والمنطقة، بما يشمل تغيير القيادات الرئيسية في البنتاغون. لذلك قرر رامسفيلد تقديم استقالته، مستبقا لقاء جيمس بيكر مع الرئيس الأميركي، المقرر عقده اليوم.

ومن المعروف أن جيمس بيكر يعتبر laquo;حكيمraquo; الحزب الجمهوري، الذي يظهر وقت الشدة لإنقاذ الموقف. فهو الذي أنقذ جورج بوش الابن في انتخابات الرئاسة الأولى ضد منافسه الديمقراطي آل غور، عندما قاد الحملة القانونية، التي أوكلت قرار حسم من يكون الرئيس الى المحكمة الدستورية العليا. وهو قريب من عائلة بوش بشكل شخصي، فقد عمل وزيرا للخارجية في إدارة بوش الأب. وأستطيع القول، من خلال عملي باحثا لمدة عامين في معهد بيكر للسياسات العامة في ولاية تكساس، الذي يترأسه الوزير السابق نفسه، أن بيكر ظل دائما، قريبا من موقع القرار في ما يتعلق بالشأن الخارجي الأميركي، من خلال اتصالات شبه يومية كان يتلقاها من البيت الأبيض. وكان على اتصال دائم مع laquo;عقلاءraquo; الحزب الديمقراطي، من أمثال لي هاملتون، الذي يشاركه حاليا رئاسة مجموعة العمل حول العراق. ومن المقرر أن يصاحبه في لقائه بالرئيس بوش اليوم.

كما كان ضمن laquo;مجموعة العمل حول العراقraquo;، المرشح الجديد لرئاسة وزارة الدفاع، روبرت غيتس. ومن المفيد أن نعرف بأن غيتس كان، مثل جيمس بيكر، رجلا أساسيا في إدارة بوش الأب، ففي حين تسلم بيكر وزارة الخارجية في هذه الإدارة، شغل غيتس منصب رئيس المخابرات المركزية فيها. وقد تتلمذ غيتس في إدارة مثل هذا الجهاز ذي الأهمية العالية، على يد بوش الأب، الذي كان بدوره رئيسا للمخابرات المركزية، في الفترة من 1976 إلى 1977. وغيتس، كبقية رجال إدارة بوش الأب، من أمثال برنت اسكوكروفت، مستشار الأمن القومي في تلك الإدارة، كان منتقدا لأداء الإدارة الحالية في العراق.

وبهذا نستطيع القول، ان الرئيس جورج بوش يتخلى في سنتيه الأخيرتين عن المحافظين الجدد ليعود الى الواقعيين القدامى، الذين ارتكزت عليهم سابقا إدارة أبيه. السنتان المقبلتان ستكونان تكملة لإدارة الأب وليس الابن.. وهذا هو الانقلاب الحقيقي، الذي أتى به فوز الديمقراطيين في الكونغرس.

ربما أستطيع التكهن قبل أن تعلن laquo;مجموعة العمل حول العراقraquo; توصياتها، بأنها تتكون من أربع توصيات أساسية، أولاها، تعيين روبرت غيتس وزيرا للدفاع، من منظور أن الحرب على الإرهاب تتطلب عملا استخباريا بقدر ما تتطلب عملا عسكريا.

وغيتس، الذي رفض بوضوح أثناء فضيحة إيران (إيران كونترا)، ما عرف في ما بعد بـlaquo;تسييس المعلومات الاستخبارية لخدمة أهداف سياسيةraquo;، يعتبر رجل مخابرات من الطراز الرفيع، ولعله الأفضل لرئاسة وزارة الدفاع في المرحلة الحالية. وبالطبع لن تعلن هذه التوصية، لأن رامسفيلد توقعها فقام بضربته الاستباقية، وقدم الاستقالة.

ثاني التوصيات، ستكون حول زيادة عدد القوات الأميركية في العراق، شرط تمركزها بعيدا عن المدن، تحاشيا لاستفزاز المشاعر الوطنية لدى العراقيين.

أما التوصية الثالثة، فهي فتح حوار مع سورية. وقد يكون الداعي إليها، المدير التنفيذي لمعهد بيكر للسياسات العامة، إدوارد جرجيان، الذي عمل سابقا سفيرا للولايات المتحدة لدى سورية، والمعروف بمحبته لأبناء المنطقة العربية، واعتزازه بأصوله الأرمنية الحلبية.

التوصية الرابعة، قد تكون دعوة الى مؤتمر اقليمي حول السلام في المنطقة، يشتمل على دول جوار العراق الرئيسية، مثل السعودية وإيران، والدول الاقليمية المحورية، مثل مصر، بهدف الوصول الى حل في مسألة استقرار العراق. وقد يكون جيمس بيكر قد استقى بعض توصياته من نقاشاته مع صناع القرار في المنطقة، خصوصا الذين يتمتع بعلاقات جيدة معهم.

دعوة إيران لمثل هذا المؤتمر، تتسق مع ما طرحه روبرت غيتس، في دراسة أعدها لمجلس العلاقات الخارجية بنيويورك، التي حث فيها الإدارة إلى فتح حوار، على الأقل، مع المجتمع المدني الإيراني.

ولكن يبدو من الطبيعي ألا يطمئن المسؤولون في المنطقة العربية، والخليج خصوصا، الى أن تكون توصيات بيكر هي الأساس في استراتيجية أمن المنطقة، لا بد لهم أن يكونوا شركاء للولايات المتحدة في خلق تصور جديد للأمن الإقليمي بما يخدم مصالحهم في المقام الأول.

الولايات المتحدة لديها اليوم تصور للأمن في المنطقة، سيطرحه مستشار الأمن القومي الأميركي، ستيف هادلي، في قمة لقاء أمن الخليج، التي ستعقد في البحرين للفترة من 8 إلى 10 ديسمبر القادم، برعاية المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية.

سيضم المؤتمر، بالطبع، مستشاري الأمن القومي للدول العظمى الخمس، وكذلك بعض وزراء الدفاع من أوروبا واستراليا والهند واليابان والعراق وإيران. كل هؤلاء يعتبرون أنفسهم شركاء في مسألة أمن الخليج، ويحاولون أن يقدموا تصورا بديلا لاستراتيجية أميركا.

لكن المهم، كما قال لي أحد النبهاء من أبناء الخليج، ان المنطقة اليوم تحتاج الى تجمع دولي مثل تجمع الآسيان (لقاء يجمع دول آسيا، بما فيها استراليا، مع الدول العظمى وكندا). والحقيقة أن الخليج بما يحتوي عليه من مصادر للطاقة العالمية، لا بد له أن يتعايش مع شراكة دولية في ما يخص مستقبل الطاقة وأمنها.

وعلى كل، فأيا كانت توصيات بيكر، أو استراتيجية أميركا الجديدة، يظل أمن الخليج وأمن منطقة الشرق الأوسط، هما شأن أهالي البلاد الأصليين. وأيا كانت التغيرات التي تحدث في الولايات المتحدة، حتى لو كانت انقلابا على المحافظين الجدد الذين عانت المنطقة من سياساتهم، فإنها، أي التغيرات، لن تضع إلا مصالح أميركا في المقام الأول. فهل يرتفع المسؤولون في منطقتنا إلى مستوى التحدي الدولي، أم أنهم سينتظرون حلولا تأتيهم من الخارج؟