عابد خزندار
قد كتبت في مقال سابق عن تأثير اختراع الكاميرا على الشعر والرسم في الثقافة الغربية، وتكلمت عن بودلير واستخدامه للصورة في الشعر، كما تكلمت عن تأثير الصورة على الرسامين كرينوار الذي أقلع عن تقليد الكاميرا ولجأ إلى تصوير انطباعة عن الشيء بدلا من تصوير الشيء نفسه، ولكن ماذا عن الأدب العربي وخاصة الشعر، فقد وجدت الصورة فيه منذ بداياته الأولي وشيخ النقاد العرب الجاحظ يقول: quot;.. فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصويرquot; وهناك الكثير من الأمثلة الكثيرة على ذلك أكتفي منها بالآتي:
ومنهن سوفي الخود قد بلّها الندى
تراقب منظوم التمائم مرضعا
ورغم ما في الوضع من فحش إلا أن جمال التصوير يجعلنا لا نشعر بالفحش، ولا حظ أنه لم يستعمل أيّ أداة من أدوات التشبية كما في هذا البيت أيضا:
كعصفورة في كفّ طفل يسومها
ورود حياض الموت والطفل يلعب
ثم تأمل جمال الصورة في هذا البيت رغم أنه استعمل أداة من أدوات التشبيه:
وإني لتعروني لذكراك هزة
كما انتفض العصفور بلله القطر
ولكن ماذا عن النثر وخاصة في القصة والرواية، ايضا صور ولا تصف أو تخبر، وتأمل هذه الجملة لمصطفى صادق الرافعي يصف فيها غانية ترقص في كباريه ومع ذلك تحتفظ بعفتها: quot;في اللهب ولا تحترقquot; وإليك هذا المثل من قصة قصيرة لأبرتو مورافيا وهو يتحدث عن زوجة تذهب إلى منزل غير منزلها quot;دقت جرس الباب وفتح لها الحارس الباب وتبعه الكلب الذي اقترب من المرأة التي ربتت عليهquot;.. إننا نعرف من هذه الصورة أو الحدث أنّ هذه ليست أول مرة تدخل فيها هذا البيت وذلك لأنها مألوفة لدى الكلب مع أن مورافيا لم يقل ذلك، وطبعا من السهل تحويل هذه الجملة إلى لقطة سينمائية، بل هي لقطة سينمائية فعلا، وأنا أصف رجلا مقرفا ومقززا للنفس في رواية لي بعنوان quot;الربع الخاليquot; لم تطبع بعد: quot;وكانت عيناه تدمعان وتسيل الدموع على خده وتختلظ بإفرازات أنفه ثم تنحدر وتختلط بلعاب فمه الذي لا يتوقف الانثيال ثمّ بين حين وآخر يمسح ذلك كله بكمّ ثوبهquot; وفي الرواية يجب ألاّ تلجأ إلى الوصف والإخبار إلا إذا كان الموصوف يشكل جزءا من الحدث الدرامي ولك أن تقارن بين وصف سباق الخيل في رواية لاميل زولا أظن أنها نانا ووصف سباق الخيل في رواية quot;أنا كارينيناquot; فوصف السباق في رواية زولا ليس له أيّ علاقة بالعقدة أو الحدث الدرامي في حين أن وصف السباق في رواية تولستوي يشكل ذروة الحدث الدرامي في الرواية إذ عندما يسقط عشيق كارينينا من فوق حصانها فتقفز أنا مذعورة من مقعدها وتصرخ في نفس الوقت من الهلع يكتشف زوجها الجالس بجانبها العلاقة بينها وبين عشيقها، والسرد لا يكون عظيما إلا إذا صور ولم يخبر، فتذكر ذلك دائما حين تكتب قصة أو رواية.
التعليقات