الأربعاء: 2006.03.022

د. خالد الدخيل


أن تجد واشنطن نفسها مضطرة للجوء إلى التفاوض مع إيران لحل الوضع في العراق يعني، وعلى عكس ما قاله الرئيس بوش في خطابه الإثنين الماضي، شعورها بعمق المأزق الذي وصل إليه احتلالها لهذا البلد. في الخطاب نفسه أكد بوش على أن بلاده ستستخدم القوة ضد إيران دفاعاً عن إسرائيل. وإذا أضفت إلى ذلك موقف إدارة بوش الرافض بحزم للبرنامج النووي الإيراني، يفرض السؤال نفسه: لماذا تضطر واشنطن في هذه الحالة إلى التفاوض مع طهران طلبا لمساعدتها على إيجاد مخرج لها في العراق؟ سؤال آخر: لماذا لجأت واشنطن إلى إيران، خصمها الأول في المنطقة، ولم تلجأ إلى أصدقائها العرب؟ خطوة واشنطن هذه تحمل أكثر من معنى. فهي تقر بأن حجم النفوذ الإيراني وصل إلى حد لا يمكن تجاهل تأثيره الكبير داخل العراق. في الوقت نفسه تعترف واشنطن بقرارها هذا بمصالح إيران في العراق، وأن الوقت حان لأن تكون هذه المصالح جزءاً من ترتيبات الوضع العراقي. هل أن واشنطن هنا تريد أن تفتح بابا للمقايضة مع طهران: الاعتراف بمشروعية مصالحها في العراق مقابل تنازل طهران عن طموحها النووي؟ وماذا يدل ذلك في شأن السياسة الخارجية للدول العربية؟ من ناحية أخرى، أن تأتي فكرة التفاوض بين إدارة بوش وإيران من المجلس الأعلى للثورة العراقي، وقبول الإدارة بذلك، يعني إقرار واشنطن بمشروعية التدخل الإيراني في العراق من ناحية، وعدم معارضتها للتحالف بين المجلس الأعلى وطهران، من ناحية أخرى. هذه معطيات قد تعكس ارتباكاً أميركياً، وتؤكد مدى تخبط السياسة الأميركية في العراق.
الأهم والأخطر من ذلك عربياً، أن قرار واشنطن التفاوض مع إيران في شأن مستقبل بلد عربي يعكس المدى الذي وصل إليه الضعف العربي، ومدى تراجع التأثير السياسي العربي في السنوات الأخيرة، حتى داخل المنطقة العربية. بعبارة أخرى، لم تلجأ واشنطن إلى أصدقائها العرب لمساعدتها على تحقيق الاستقرار في العراق، وهو قبل كل شيء وبعده، بلد عربي. وبالتالي يفترض أن تكون الدول العربية هي المرجع الأول، والملجأ الأهم لتحقيق مثل هذا الهدف الذي يهم العرب أكثر مما يهم الولايات المتحدة. بدلا من ذلك لجأت واشنطن إلى إيران، التي تتهيأ لاحتمال مواجهة عسكرية معها، متجاهلة بذلك أصدقاءها وحلفاءها العرب، وهم كثر. خطوة واشنطن توحي بأن النفوذ الإيراني في العراق وصل إلى حد قد يجعل الملف العراقي محصورا بين الاحتلال الأميركي، والنفوذ الإيراني. وفي هذا مفارقة صارخة تبعث على الحيرة أحياناً، وعلى الحزن أمام قساوة الواقع أحيانا أخرى. تأتي خطوة واشنطن تجاه طهران عشية القمة العربية في الخرطوم، وتقابل بصمت عربي، رسمي وغير رسمي، يوحي بشيء من حالة استسلام لا يبدو عربياً أنه يمكن مقاومة إكراهاتها.
من الناحية الأميركية تؤكد خطوة إدارة بوش ليس فقط ما يقوله خصومها الأميركيون قبل غيرهم عن فشلها في حرب العراق، بل تؤكد أمرا آخر، وهو ارتباك الإدارة في هذه الحرب. بعد ثلاث سنوات على الاحتلال فشلت إدارة بوش في تغيير النظرة السائدة، داخل أميركا وخارجها، حول الوضع في العراق. وهي نظرة ترتكز إلى رؤيتين: إحداهما تقول إن العراق في حالة حرب أهلية، لكنها حالة منخفضة وغير معلنة. يستند هذا الرأي إلى: استمرار عمليات التفجير، والاغتيالات، تدهور الخدمات والظروف المعيشية، اصطفافات طائفية وإثنية على شكل أحزاب وتحالفات، انتشار مليشيات تابعة لتلك الأحزاب والتحالفات، وقيام مؤسسات إعلامية، صحف ومحطات تلفزيونية، على الأسس الطائفية نفسها. ثم يشير أصحاب هذا الرأي، ومنهم مسؤولون أميركيون، إلى أن اتساع مدى الحرب الأهلية وصل إلى حد تورط أجهزة أمن رسمية، ومليشيات مرتبطة بأحزاب وأجهزة رسمية، في عمليات التصفية والاغتيالات. من ناحيته يؤكد رئيس الوزراء العراقي السابق على أن العراق دخل بالفعل حرباً أهلية معلنة، أبرز معالمها انتشار ظاهرة التطهير الطائفي.
هناك رؤية أخرى لا تقل سوءاً عن الأولى. تقول إن الوضع في العراق لم يدلف إلى أتون حرب أهلية معلنة بعد. لكنه في ظروفه الحالية ينطوي على كل العناصر اللازمة لانفجار هذه الحرب. وتعبيرا عن وصول حالة الارتباك إلى صفوف جنرالات الجيش الأميركي، كما قالت صحيفة الـquot;نيويورك تايمزquot;، يأتي رئيس هيئة الأركان الأميركية، الجنرال بيتر بايس، ليقول، حسب الصحيفة، quot;إذا ما أراد العراقيون حرباً أهلية، فكل شيء مهيأ لذلك هناكquot;. المسألة إذاً هي مسألة وقت، ومسألة محاولات أخيرة لتفادي هذا المنزلق، كما هو حاصل الآن في محاولات تشكيل حكومة وطنية، تحقق الإجماع المطلوب لتفادي انفجار الوضع. يعتمد أصحاب هذا الرؤية على المؤشرات نفسها التي يستخدمها أصحاب الرؤية الأولى، مع التأكيد على أن هذه المؤشرات بالنسبة لهم لا تدل على أن الحرب الأهلية قد وقعت بالفعل، بل تدل على أن البلد مهيأ للانزلاق إلى هذه الحرب في أية لحظة.
بهذه الصورة القاتمة يدل الوضع السياسي والأمني في العراق على فشل إدارة بوش في تحقيق ما ادعت أنه هدفها من وراء إسقاط نظام صدام حسين، وهو الأمن والديمقراطية للشعب العراقي. الأسوأ من ذلك، تدل هذه الصورة على عمق المأزق الأميركي: بقاء القوات الأميركية في العراق أهم سبب للمقاومة والإرهاب، ولتدهور الأوضاع الأمنية والسياسية هناك. من ناحية أخرى، انسحاب هذه القوات يمثل سقوط أهم موانع انفجار الحرب الأهلية في العراق. إلى جانب ذلك يشكل الانسحاب، فيما لو حصل، إعلاناً مدوياً عن فشل إدارة بوش في أهم سياساتها الخارجية، أو محاربة الإرهاب ونشر الديمقراطية، الأمر الذي يشكل يهدد بتداعي الاستراتيجية الأميركية في المنطقة ككل. ومع ذلك، والوضع على هذه الحالة من التعقيد والتداخل، يبقى ممكناً أن تجد إدارة بوش نفسها مضطرة أخيرا، تحت الضغوط الشعبية في الداخل الأميركي، وضغوط الفشل المتواصل في العراق، مع تكاليفه السياسية والمالية والبشرية، إلى سحب قواتها، وترك العراق لأهل العراق. هذا احتمال بعيد حتى الآن بسبب ما يمثله من خطورة على سمعة أميركا ومصالحها في المنطقة، لكنه يبقى احتمالاً تخشى إدارة بوش أن تفرضه الظروف عليها قسرياً.
لتفادي تطور الأمور في هذه الاتجاه ظلت إدارة بوش، مع الكثير من المكابرة، تبحث عن مخرج للوضع العراقي، يساعدها على تحقيق شيء من التقدم السياسي يمكن البناء عليه. والغريب أن المخرج، أو ما يبدو أنه كذلك، لم يأتِ من أية جهة أخرى، غير إيران، أحد أطراف quot;محور الشرquot; في نظر واشنطن. أول من اقترح مفاوضات أميركية إيرانية هو عبدالعزيز الحكيم، رئيس المجلس الأعلى للثورة في العراق، والطرف الأساسي في الائتلاف الشيعي العراقي. ولأن الحكيم هو حليف طهران الأول في بغداد، فإن دعوته إلى هذه المفاوضات لابد وأنها كانت بإيحاء إيراني. يدعم ذلك، أن لاريجاني، رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني، ورغم حدة المواجهة بين إيران وواشنطن بسبب الطموح النووي الإيراني، سارع إلى قبول فكرة المفاوضات. بدورها لم تتردد إدارة بوش في قبول الاقتراح، مما يوحي بأن فكرة المفاوضات هذه، لم تكن وليدة الساعة، بل الأرجح أنه تم التفاهم حولها منذ زمن ليس بالقصير بين الأطراف الثلاثة: إيران، والمجلس الأعلى، والسفير الأميركي في بغداد.
هل يمكن أن تؤدي هذه المفاوضات إلى مخرج للوضع في العراق، ولواشنطن من العراق؟ الأرجح أن تؤدي هذه الخطوة إلى نتائج عكسية لما يبدو أن واشنطن تتمناه، ويتمناه بعض العراقيين. الشيء الأكيد أن هذه الخطوة ستعزز القوة السياسية لتحالف المجلس الأعلى للثورة وحزب الدعوة، وستضيف إلى عمق الهوة بين الشيعة والسُّنة، وبالتالي تعزيز الاصطفافات الطائفية في العراق. وكل ذلك يزيد من انزلاق العراق نحو الحرب الأهلية. والغريب أن هذا الواقع، وليس ادعاءات أركان الإدارة، هو الذي فرض التوجه إلى إيران لإيجاد مخرج، ليس فقط للعراق، بل للإدارة الأميركية التي يبدو أنها تعد خطط مواجهة عسكرية مع إيران. والأغرب أن الغياب العربي، أو الضعف العربي، سمِّه ما شأت، أهم العوامل التي سمحت بهذه المفارقة، وهي مفارقة ربما أخرجت الملف العراقي من يد السياسات الخارجية العربية، لتجعل منه أسير الاستراتيجيتين: الأميركية، ومن ورائها الإسرائيلية من ناحية، والإيرانية من ناحية أخرى.