الجمعة: 2006.07.07
صبحي حديدي
المعلّق الإسرائيلي ألوف بِنْ كسر الصمت، أو لعله باح بالمسكوت عنه في صفوف الساسة وأجهزة الأمن والقادة العسكريين الإسرائيليين، حين عقد مقارنة افتراضية بين صاروخ فلسطيني من طراز القسام ، محمّل بمواد انفجارية بدائية ولا يتجاوز مداه 12 كم، يسقط علي سيدروت أو عسقلان ويتسبب في أضرار طفيفة لا تتجاوز جرح مستوطن أو حفر طريق إسفلتي؛ وصاروخ سوري من طراز سكود ، محمّل برأس كيماوي، يمكن أن يسقط علي تل أبيب ويوقع مئات الإصابات. وتوصّل بن إلي خلاصة قد تبدو بالغة الغرابة، للوهلة الأولي فقط: أنّ الصاروخ الأوّل، القسام هو الأشدّ خطورة. لماذا؟ ببساطة، لأنّ الصاروخ السوري لن ينطلق في أية حال (إذ يعرف بشار الأسد أنّ عواقب إطلاقه سوف تعني قيام مقاتلات إسرائيلية من طراز F-16 بدكّ مواقع السلطة السورية أينما كانت، بدءاً من القصور الرئاسية، وربما إسقاط النظام)، في حين أنّ المقاتلات ذاتها لا تستطيع القيام بمهامّ مماثلة في غزّة ومحيطها، وأنّ العلاج الذي سيُطرح علي جدول الأعمال (أي إعادة احتلال القطاع) اسوأ من العلّة ذاتها.
ليست المشكلة، إذاً، في التكنولوجيا التدميرية للصاروخ أو الأمدية التي يمكن أن يبلغها، بل في الأصابع التي تضغط علي زناد الإطلاق. وبهذا المعني، يستخلص بن، فإنّ بشار الأسد أرحم للدولة العبرية من فتية كتائب عزّ الدين القسّام، وصاروخه الفتاك أقلّ وطأة من صواريخ الهواة التي يصنّعونها بموادّ بدائية وتكنولوجيا فقيرة. استطراداً، يعتبر بن أنّ الدولة العبرية بحاجة إلي حسن نصر الله، فلسطيني غزّاوي حمساوي، يضبط صواريخ القسام كما ضبط الشيخ نصر الله صواريخ الكاتيوشا في صفوف حزب الله جنوب لبنان.
في صياغة أخري، من عندنا هذه المرّة، يريد بن وضع صواريخ القسام قيد السياسة، وليس وضع السياسة رهينة تلك الصواريخ، علي غرار السياسة التي اعتمدها نصر الله، وفرضها ونفّذها حزب الله ، بعد ـ ولكن أيضاً خلال ـ سنوات الإحتلال الإسرائيلي للجنوب: سلاح واحد/ قانون واحد. أكثر من هذا، يعتبر بن أنّ الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان سنة 2000 ليس مردّه جرأة رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إيهود باراك، فحسب؛ بل يدين كذلك لسياسة نصر الله في فرض وحدة القرار السياسي ووحدة السلاح، سواء بسواء.
ويكتب بن، في مقال بعنوان نحن نحتاج إلي نصر الله آخر ، نشرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية يوم أمس: نصر الله لا يكره إسرائيل والصهيونية أقلّ من قادة حماس، وخاطفي شاليت، وفصائل القسام. ولكنه، علي نقيض منهم، يمتلك السيطرة ويتحلي بالمسؤولية، ولهذا فإنّ التكهن بسلوكه ممكن عقلانياً ومنطقياً. وهذا، في الظروف الراهنة، هو الوضع الأفضل لنا: إنّ حزب الله يقوم بالحفاظ علي الهدوء في الجليل علي نحو أفضل بكثير مما فعل جيش لبنان الجنوبي الذي كان موالياً لإسرائيل . ولأنه لا يوجد في الأراضي الفلسطينية المحتلة نصر الله فلسطيني، يتابع بن، كما أنّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس لا يبدو زعيماً نافذاً مفوّضاً بقدر ما يشبه مثقفاً معذّباً مؤيداً للمفاوضات الدبلوماسية ، وحكومة حماس لا تملك السيطرة علي السلاح، أو لا ترغب في ذلك أصلاً... فإنّ صواريخ القسّام أخطر من الكاتيوشا أيضاً!
والحال أنّ هذه المقاربة لا تصدر اليوم عن فراغ، ولا تهبط من سماء التنظير السياسي الصرف. وأمس، بعد إعادة احتلال ثلاث مستوطنات سبق لجيش الإحتلال الإسرائيلي أن أخلاها قبل نحو عام بقرار من رئيس الوزراء السابق أرييل شارون، بات من الواضح أنّ حكومة إيهود أولمرت تتكيء علي قضية الجندي المحتجز لكي تقفز منها إلي تنفيذ غرض تكتيكي واستراتيجي في آن معاً، هو تشكيل مناطق عازلة شمال قطاع غزّة، تحول دون وصول صواريخ القسام إلي عمق، أو حتي إلي تخوم، سديروت وعسقلان داخل ما تسمّيه الدولة العبرية الحزام الأمني . لكنّ سقوط قسام جديد في قلب عسقلان، بعد احتلال المستوطنات الثلاث وتوسيع رقعة المناطق العازلة، أعاد العملية بأسرها إلي السؤال الامّ: هل يتوجّب إعادة احتلال غزّة والعودة إلي المربع الأوّل الجهنمي الذي غادره شارون علي عجل وبلا ندم؟ وأيّ ثمن فادح يتوجب علي الدولة العبرية أن تسدده لقاء هذه العودة ـ الردّة؟
الصحافة الإسرائيلية عكست قلقاً واضحاً في صفوف حكومة أولمرت (وهي القائمة جوهرياً علي ائتلاف بين يمين الوسط كما تمثّله كاديما ، ويسار الوسط كما يطمح حزب العمل إلي تمثيله) تجاه قرار كهذا، سبق للشارع الإسرائيلي أن باركه علي نحو مدهش العاقبة: أنه أسفر عن تفتيت الليكود التاريخي حين غادره شارون وأسس حزبه الخاص. وهكذا ظهر إلي العلن اعتراض وزير العدل حاييم رامون (ولكن ليس وزير الدفاع، وزعيم حزب العمل، عمير بيرتس!) علي إعادة احتلال غزة، لأنه يفضل احتمال مخاطر سقوط القسام أكثر من احتمال فكرة العودة لاحتلال القطاع . قلق مماثل عكسته الإدارة الأمريكية، غمغمة أو صراحة، كما في إعلان وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس أنها طلبت من أولمرت ضبط النفس وتجنب العودة لاحتلال مناطق في القطاع ، ملوّحة بأنّ المناخات الإقليمية الراهنة، التي قد تكون حرجة للولايات المتحدة بسبب من عوامل عديدة ليس العراق وحده في عدادها، لا تسمح بأيّ تدهور جديد.
غير أنّ المعضلة، لكي نعود إلي مقاربة ألوف بِنْ علي هذه الخلفية بالذات، أي خيار العودة إلي احتلال غزّة بوصفه أمرّ من سقوط صواريخ القسام، ليست في تشريح الفضائل التي يمكن أن تنجم عن توفّر حسن نصر الله فلسطيني، أو انقلاب أبو مازن إلي مستبدّ علي النمط الشائع في معظم الانظمة العربية (كما يبدو أنّ بِنْ يتمني ضمناً!)، أو سيطرة حماس وسائر الفصائل والمنظمات علي سلاح أعضائها وأنصارها. إنها، قبل هذا كلّه، وأكثر من أيّ اعتبارات أخري، مشكلة إسرائيل مع ذاتها، في مرآة ذاتها، إزاء معضلات كبري شائكة تخصّ الوجود والهوية والروح والسيكولوجية الجمعية، ثمّ معضلات إسرائيل مع الفلسطينيين في ضوء تلك الإعتبارات، أو بالأحري بسبب من ضغوطاتها وعقابيلها وعواقبها.
وذات يوم غير بعيد، عشية انتخاب أرييل شارون رئيساً للوزراء للمرّة الأولي (وتلك، لمَن ينسي، برهة فارقة حاسمة في تاريخ انحطاط صندوق الإقتراع الإسرائيلي إلي حضيض فاشيّ بربري عسكرتاري)، تذكّر المؤرّخ الإسرائيلي ميرون بنفنستي أنّ العلاقة بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي كانت حَلَقية علي الدوام (بمعني أنها تعيد إنتاج نفسها ضمن حلقات متماثلة من الثوابت والثوابت المضادّة)، والمطلوب اليوم تحويلها إلي علاقة خيطية تسمح بالإنتقال من طور إلي طور (بمعني نسيان الماضي، في تأويل آخر). ولم يطل الوقت حتي اضطرّ بنفنستي نفسه إلي الإعتراض العلني علي استمرار جيش الإحتلال في تخريب بني السلطة الوطنية الفلسطينية والسعي إلي إهانة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات شخصياً، فكتب يقول: لماذا لا تُضمّ إلي كورس الخبراء الأمنيين، المطالبين بإهانة الزعيم الفلسطيني وبإزالته من الوجود، تلك الأصوات الأخري التي تعرف حقّ المعرفة أن غيابه سوف يخلق حالة فوضي تجعل الوضع الراهن يبدو أشبه بالنعيم ؟
كانت واحدة من أبسط الإجابات علي سؤال بنفنستي تلك التي تقول إنّ ذاكرة الإحتلال أقصر من أن تدرج الدروس القاسية علي كثرتها، وأكثر غطرسة من أنّ تقرّ بأنّ الحجر قادر علي إيقاع هزيمة سياسية بالدبابة (وهكذا، استطراداً، قد تكون حال صواريخ القسام ، ليس بالقياس إلي الـ سكود والـ كاتيوشا فقط، بل بالمقارنة مع قاذفات الـ F-16 كذلك!). من جانب آخر اعتبر بنفنستي أنّ الحكاية ليست حرب شارون ضدّ الإرهاب، بل حربه الشخصية الفردية ضدّ كارثة أوسلو كما اعتاد شارون أن يردّد. كذلك فإنها ليست حرباً علي بنود الإتفاقيات، بل هي الحرب ذاتها التي ظلّ شارون يخوضها ضدّ الإقرار بأنّ منظمة التحرير الفلسطينية حركة وطنية تمثّل الشعب الفلسطيني . وفي الخلاصة الطبيعية، لم يجد بنفنستي بدّاً من التوقف عند ما أسماه الكارثة الإسرائيلية ، المتمثّلة في ضخّ نزوعات شارون الإيديولوجية في كلّ مناحي الحياة الإسرائيلية، السياسية والأمنية والإجتماعية والثقافية، فكتب يقول: حين سيدوّن المؤرّخ وقائع الكارثة ذات يوم، سوف يُتاح له علي الأقلّ أن يضع هامشاً أسفل الصفحة يقتبس فيه مراثي أنبياء القيامة اليهود، ممّن ساروا علي درب الكارثة .
بعد أشهر معدودات قررت الحكومة الإسرائيلية، وليس الجنرال أرييل شارون وحده، الذهاب إلي الحدود القصوي في المواجهة بين الإسرائيلي والفلسطيني، بين محتلّ الأرض وصاحب الأرض، بين القوّة الكولونيالية والمقاومة الوطنية، وبين قاذفة الـ F-16 والحزام الناسف. كانت تلك، عند الفلسطيني أساساً، هي الجولات الأحدث في الحرب الطويلة، وكانت بمثابة نتائج إضافية للعام 1948. ولكنها، في الآن ذاته، كانت حرباً علي الإسرائيليين، تماماً علي النحو الذي استبصره مستوطن إسرائيلي حين هتف كمَن يكتشف جديداً مذهلاً: هل نعيش عام 1948 من جديد ؟ ولم تكن سلسلة التطوّرات اللاحقة بعد توقيع اتفاقيات أوسلو (من اغتيال إسحق رابين وانتخاب بنيامين نتنياهو ثمّ تحقير بيريس ونتنياهو وباراك انتخابياً، إلي تكريم شارون بالوسيلة الديمقراطية ذاتها، وصولاً إلي صعود كاديما باعتباره الكيمياء السحرية التي توحّد يمين الوسط ويسار الوسط... ضدّ الفلسطينيين، وبالتالي ضدّ فكرة السلام في ذاتها)، إلا سبيل الإسرائيليين في التأكيد علي أن نسبة ساحقة منهم لم تخرج من الشرنقة مرّة واحدة، ولا يبدو أنها بصدد ذلك في أيّ يوم قريب.
وفي آذار (مارس) 2004، حين اغتالت إسرائيل الشيخ أحمد ياسين، كتب ألوف بِن نفسه مقالة تعتمد السخرية السوداء (ممّن؟ من إسرائيل؟ من الأنظمة العربية؟ من العالم بأسره؟)، أثني فيها علي حكومة شارون لأنها لم تخدع الجمهور كما فعل الرئيس الأمريكي جورج بوش أو رئيس الوزراء البريطاني توني بلير في أطوار الإعداد لاجتياح العراق وتضخيم ملفات أسلحة الدمار الشامل. شارون قالها للجميع بصراحة: سوف نغتال الشيخ ياسين. هكذا قال أيضاً وزير دفاعه شاؤل موفاز. بل هكذا فعل جيش الإحتلال الإسرائيلي عملياً في أيلول (سبتمبر) 2003 خلال محاولة اغتيال أولي كان مصيرها الفشل.
آنذاك، ساعة الاغتيال، أين كانت السياسة في إسرائيل الأخري ، إذا صحّ وجود مسمّي لهذه التسمية؟ كانت المعارضة في حال من التواطؤ الصامت (يشبه، للإنصاف، تواطؤ الأنظمة العربية والمجتمع الدولي!). شمعون بيريس كان يواصل الحلم بالعودة إلي وزارة الخارجية؛ ويوسي بيلين كان يحتفل بانتخابه رئيساً لحزب ياحاد الجديد (اليساري!)، دون تقديم أيّ عزاء إلي وثيقة جنيف أو شريكه فيها ياسر عبد ربه؛ ويوسي ساريد، مثل شولاميت ألوني وتسعة أعشار جماعة ميريتس ، كانوا في الغيبوبة ذاتها. لماذا لم يبادروا إلي إلقاء الخطب العاصفة حول مخاطر الاغتيال قبل وقوعه، سأل ألوف بن. لماذا لم يطلبوا، بوصفهم وجوه المعارضة ، اجتماعاً عاجلاً مع شارون لإقناعه بالعدول عن هذا الاغتيال المعلَن؟ وأين كانت قوي السلام الإسرائيلية، ومنظمة الضباط المتمردين الرافضين لتنفيذ عمليات الاغتيال، وسواها، وسواها؟
كانت، وما تزال تمكث، في قلب الشرنقة القديمة إياها، حيث يستطيب الإسرائيلي عقدة الضحية/ الجلاد والمحاصَر/ المحاصِر في آن معاً. هيهات، إذاً، أن يفلح أيّ حسن نصر الله فلسطيني في إخراجه إلي عراء السلام!
التعليقات