هدى الحسيني

طالب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، دمشق بـlaquo;تبادل السجناءraquo; مع إسرائيل، وأصر على أن خطف الجندي الإسرائيلي كان عملية عسكرية، وليس عملا إرهابياً. لم يعترف مشعل بأن laquo;العملية العسكريةraquo; كلفت حكومة حماس والشعب الفلسطيني غالياً، خصوصاً انها جرت في الوقت غير المناسب تماماً. اذ لم يعد هناك من دولة في الوقت الحاضر، تعتبر القضية الفلسطينية قضيتها الرئيسية، فيما تزداد شراسة الحرب الأهلية في العراق، وهذه بحد ذاتها تسبب الأرق لكافة الدول الإسلامية والعربية وأيضاً لإيران ـ إذا ما كان مشعل يعّول عليها ـ فالحرب الأهلية في العراق تنزع من إيران ورقة أساسية بأنها القادرة على فرض الاستقرار فيه متى شاءت. ان laquo;العملية العسكريةraquo; التي أمر بها مشعل حولت قطاع غزة الى بركان تؤجج نيرانه مأساة الشعب الفلسطيني، ولن يكون هناك من منقذ. كوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة، رفعاً للعتب دعا إسرائيل لاتخاذ كافة الاجراءات لمنع اتساع حجم المأساة الإنسانية، وكان رد رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود اولمرت أن العملية ستستمر إلى ما لا نهاية، إذا لم يتم الافراج عن الجندي المخطوف، وقال مشعل في مؤتمره الصحفي ان لا افراج الا مقابل الافراج عن السجناء الفلسطينيين.
في حالة كهذه، يبدو الوضع على الأرض كالتالي: الفلسطينيون يعانون، يجوعون، يمرضون ويضّحون كعادتهم مقابل تحديات دونكيشوتية يقدم عليها مسؤولوهم، ووسط تصفيق الشعوب العربية، التي تستعد لإجازات الصيف، لهذه الوقفة المجيدة للشعب الفلسطيني وبالذات للاطفال. مشعل يهرب الى الامام وإسرائيل تراوغ وتقول إن علاقاتها جيدة مع مختلف المنظمات الانسانية، ويقول مسؤولوها إن بلادهم حريصة على ايصال الأدوية الى المصابين، وينسون انه مقابل كل صاروخ بدائي من صواريخ القسام يسقط بعيداً عن الهدف، تنهمر مئات القذائف على الجانب الفلسطيني، وتدمر البنى التحتية أو ما تبقى منها. وبسبب جندي اسرائيلي عاقبت إسرائيل مليونا ونصف المليون فلسطيني.
نعود إلى مشعل ومؤتمره الصحفي. الجديد في هذا المؤتمر أنه سُمح لمشعل بعقده في دمشق، إذ جرت العادة ان تعقد حماس مؤتمراتها الصحفية بعد كل أزمة، في لبنان. يقول البعض ان سماح دمشق بهذه الخطوة، دليل على القوة التي يشعر بها النظام السوري حالياً، ثم انه بعد اسبوعين من الصمت ورغم كونه laquo;الرجل الأساسيraquo; في هذه الأزمة، ولأنه مطلوب من اسرائيل أراد مشعل أن يدمج أموراً كثيرة في آن: أن يتحدى إسرائيل وفي الوقت نفسه ان يعرض عليها تبادل الأسرى بمعنى التفاوض ولو بطريقة غير مباشرة.
هذا الأسلوب طُبق في السابق مع laquo;حزب اللهraquo;، لكن حزب الله يملك الأرض وجرت مواجهات بينه وبين اسرائيل، وتوصل الطرفان لاحقاً الى ما سمي laquo;تفاهم نيسانraquo;، ثم جرى تبادل الأسرى بينهما. وإذا كان مشعل أراد من خلال مؤتمره الصحفي أن يظهر بأنه يفرض شروط إطلاق سراح الجندي وبنود التفاوض مع إسرائيل، إلا انه في الوقت ذاته حقق لاسرائيل ما تريد. لأن التفاوض غير المباشر لن يشمل فقط اطلاق سراح الجندي، ثم ان اسرائيل عندما وافقت على اطلاق سجناء طالب بهم حزب الله (كانت ألمانيا الوسيط)، جرى ذلك مقابل جثث ثلاثة جنود اسرائيليين، وبالطبع بقيت الاتفاقيات على سريتها.
لقد أعطى خطف الجندي إسرائيل ذريعة لتحقيق أهدافها، فهي عبر العمليات المتواصلة في غزة، تريد وضع حد لإطلاق صواريخ القسام على خراجات مدنها، انها تريد تغيير قواعد اللعبة وإسقاط معادلة إطلاق الصواريخ. هي تريد أن تفرض على حدودها مع غزة ما تم الاتفاق عليه بالنسبة الى حدودها مع لبنان، حيث ان المواجهة مع حزب الله مستمرة انما ضمن شروط واضحة جدا، تجنب قصف المدنيين وحصر العمليات في مناطق محددة. وعندما أُطلق صاروخان في شهر ايار(مايو) الماضي من جنوب لبنان، قيل ان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة اطلقتهما لإحراج حزب الله المتعهد المحافظة على شروط اللعبة، ودفعه الى فتح جبهة لاخلال الوضع في لبنان، لم تتردد اسرائيل في قصف كل مراكز الحزب على طول الحدود وتحميله المسؤولية.
إن عملية خطف الجندي التي سماها مشعل laquo;عملية عسكريةraquo;، أودت حتى كتابة هذا المقال ليل الاثنين، بحياة 53 فلسطينيا مقابل جندي إسرائيلي قتل بالنيران الصديقة في شمال غزة، وقال قائد المنطقة الجنوبية في إسرائيل الجنرال يواف غالانت: laquo;إننا مستعدون لمواصلة العملية العسكرية لمدة شهر وشهرين وحتى اكثر، وعندما سيراجع الفلسطينيون خسائرهم وعدد قتلاهم في نهايتها، اعتقد انهم سيفكرون مرتين في المستقبل، قبل التخطيط لخطف جندي آخرraquo;. أما رئيس الوزراء اولمرت فإنه أراد استعادة ثقة الرأي العام الإسرائيلي بخطته المقبلة المتعلقة بالانسحاب من الضفة الغربية، وبشنه هذا النوع من العمليات العسكرية غير المتكافئة، انما يختبر الخيارات المطروحة أمام حكومته من أن الانسحاب الأحادي من الأراضي المحتلة، يعطي إسرائيل حرية تحرك مطلقة إذا ما استمر العنف في المناطق التي أعيدت للفلسطينيين، ويشعر أولمرت بأنه إذا نجحت هذه المعادلة في غزة، فإن الرأي العام الإسرائيلي سيوافق من دون عناء على الانسحاب من الضفة، طالما أن الرد سيكون حاسما وأن العالم لن يتحرك، لأنه يعتبر بأن إسرائيل قد انسحبت من اراضي 1967.
عندما اقترح رئيس الوزراء إسماعيل هنية يوم السبت الماضي، وضع حد لكل العمليات العسكرية من قبل الطرفين، جاء الجواب من اولمرت بأن لا تفاوض مع حماس، لكن وزير الأمن الإسرائيلي افي ديشتر، وهو من الأقرب لاولمرت قال laquo;إن إطلاق سراح الجندي ضروري، وفي اللحظة التي يتوقف فيها إطلاق صواريخ القسام، سوف ندخل فترة هدوء، وفي نهايتها سيكون ممكنا إطلاق سراح سجناء كبادرة حسن نيةraquo;.
هناك توافق عام بأن laquo;العملية العسكريةraquo;، التي أمر بها مشعل إنما هي جزء من محاولاته لإحراج رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وكذلك هنية، ولإظهار أنه الحاكم الحقيقي لغزة. ولوحظ أن اقتراحه بتبادل السجناء، جاء بعدما عرض هنية وقفا لاطلاق النار، الذي رفضته إسرائيل التي تعرف أين عنوان حماس بالتحديد، كما أن المؤتمر الصحفي جاء بعدما أرسل عباس مبعوثين لبحث اطلاق سراح الجندي مع مشعل وقيادة حماس في دمشق، وبعد وصول أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى الى دمشق للغرض نفسه، وكشف هذا أن مشعل ليس سيد نفسه، بل رجل سوريا، وانه رهن حماس لدمشق، واذا استطاع يسلم القضية الفلسطينية كلها الى سوريا.
في مؤتمره، قال مشعل انه سمع بهذه الزيارات من خلال وسائل الاعلام، مما كشف أن الاتصال به ليس مباشرة، انما عبر المسؤولين في دمشق. وتقول مصادر أميركية إن سوريا ابلغت اسرائيل بطريقة غير مباشرة أن مشعل رجلها، ومع معرفة اسرائيل بأن مشعل وليس هنية من أمر بالعملية عبر النفق، شعر اولمرت بأن على سوريا الضغط على مشعل لإطلاق سراح الجندي المخطوف، ومن هنا جاء تحليق الطيران الإسرائيلي فوق قصر الرئاسة في اللاذقية، وللتبيان أمام الرأي العام الإسرائيلي ان الرادار الإسرائيلي لا يزال يغطي سوريا، وان مشعل قد يصبح عبئا عليها وليس ورقة في يدها، لكن وحسب المصادر الاميركية فإن سوريا، تريد ثمنا وهو تخفيف الضغوط الأميركية عليها، الأمر الذي لا يستطيعه اولمرت، لأن قدرته على التأثير على الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش محددة، اذا أمكن القول في العلاقة الاسرائيلية ـ الفلسطينية، وأن الرئيس الأميركي لا يتحمل اية معارضة لسياساته الشرق أوسطية المتعلقة بسوريا، أو العراق، أو إيران.
إذا كانت إسرائيل غير قادرة الآن على فعل أي شيء لتخفيف الضغوط الأميركية على سوريا، فإن الأخيرة لن تخضع لضغط اسرائيل بطرد مشعل، لأنها تراهن على أنه ورقة مفيدة لها عندما يحين وقت جلوسها على طاولة المفاوضات مع اسرائيل وأن وجوده، إذا صحت حساباتها، قد يعجّل في تلك المفاوضات. لكن سوريا في الوقت نفسه لا تتحمل أن تغتال اسرائيل مشعل فوق أراضيها، لأنها ستضطر الى اعتبار مثل هذه العملية بمثابة إعلان حرب، وكون الطيران السوري لم يحلق لمواجهة الطيران الاسرائيلي أخيرا، يعني أن قدراتها العسكرية محدودة في هذا المجال، كما أنها لا يمكن أن تعتمد على دعم الدول العربية المجاورة لها في اية مواجهة.
إن سوريا تتمنى في هذا الوضع، أن تحرك الجبهة اللبنانية لتخفف عنها وعن حماس/ مشعل، لكن الهدوء يسيطر على الحدود اللبنانية ـ الاسرائيلية رغم التطورات الأخيرة على الساحة الاسرائيلية ـ الفلسطينية ـ السورية، ويعود ذلك الى تأثر حزب الله بالموقف الإيراني في المفاوضات المتوقعة ما بين طهران وواشنطن حول الوضع في العراق، وحول برنامج ايران النووي. وبصفتها الممول الرئيسي لحزب الله، الذي يتبع الأيديولوجية الايرانية، فإن طهران لها النفوذ المؤثر على مقاتلي الحزب، ولا تريد بالتالي أن يتورط حزب الله في اي مواجهة مرتبطة بالصراع الاسرائيلي ـ الفلسطيني، قد تنعكس على المفاوضات الجارية الآن معها بصدد العراق والبرنامج النووي.