غرام واحد يمكن أن يقتل 50 مليون شخص ويصيب بالمرض 50 مليونا آخرين


كارين كابلان وتوماس مو


أثار موت الكساندر ليتفنينكو بالتسمم في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي والذي سببه النظير المشع للبولونيوم 210 اهتماما حادا بهذه المادة الغريبة ولكن الجاسوس الروسي السابق لم يكن اول واحد ابتلع المادة القاتلة.
ففي ذروة الحرب العالمية الثانية وفي جناح طبي منعزل بجامعة روتشيستر في نيويورك أعطى الدكتور روبرت فنك ماء فيه البولونيوم 210 الى مريض بالسرطان وحقن أربعة آخرين بالنظير. وكان من الواضح انه ما من احد من الخمسة توفي من الجرعات الصغيرة على الرغم من ان واحدا منهم مات بسبب السرطان بعد ستة ايام.

والتجربة المريبة اخلاقيا، والتي حفزها القلق على امن العاملين في مشروع مانهاتن لانتاج القنبلة الذرية، أثمرت المعلومات الأولى حول الآثار الصحية للنظير على البشر.

كما انها تؤكد الاثارة والغموض الذي ميز تاريخ هذا العنصر منذ ان اكتشف على يد ماري وبيير كوري قبل قرن. وترك النظير طائفة مميزة من حالات الوفيات، معظمها نتيجة للجهل.وعلى الرغم من ان العلماء شكوا في أن البولونيوم 210 خطر، فقد أخفقوا في تقييم السهولة التي يمكن ان ينتشر بها، متفاديا الحصر المختبري مثل جنّي يخرج من القنينة وينشر إشعاعه القاتل في التيارات الهوائية.وصارع المهندسون من اجل ايجاد نفع للنظير، مستخدمينه لفترة في أجهزة اطلاق الشرارة وأجهزة اطلاق الرؤوس الحربية النووية وتجهيز الطاقة للسفن الفضائية. وهو يلعب اليوم دورا صغيرا كعنصر متذبذب في الصحافة المطبوعة. وربما اشار من يمارسون الاغتيال أخيرا الى استخدامه الأكثر فاعلية.وقال ديفيد دولي، أخصائي البيولوجيا الاشعاعية الذي درس مستويات التعرض لدى العاملين الذين ينتجون البولونيوم لمشروع مانهاتن، إن laquo;الأوساط العلمية مثارة الفضول بسبب قتل ليتفنينكو. انه لمن الذكاء ان توصلوا الى ذلكraquo;.

وبطرق كثيرة يعتبر البولونيوم 210 سما مثاليا في مجال التجسس، فهو قاتل ولا يمكن تحديده الا بعد فوات الأوان.ان جرعة من المسحوق الأبيض اقل من حبة الملح كان لها أن توضع في شراب ليتفنينكو في بار فندق الملينيوم بلندن بدون ان تغير الطعم، وفقا لأخصائي الكيمياء جون ايمسلي من جامعة كيمبردج.

وخلال دقائق من التمثيل الغذائي أطلقت الجزيئات الحيوية ذرات البولونيوم 210 التي بدأت بقتل الخلايا التي تحمي المعدة والأمعاء. وبينما كانت الخلايا تنفصل سببت الغثيان والنزف الداخلي الشديد والألم الحاد.

وقال بيتر زيمرمان، الطبيب في كينغز كوليدج بلندن laquo;كان الأمر كما لو أن الأعضاء الداخلية تلقت حرقة شمس وتقشرتraquo;.

ويعتبر البولونيوم 210 أكثر تسميما بملايين المرات من سيانيد الهيدروجين، السم الذي استخدم لإعدام السجناء في غرف الغاز وفقا لما ورد في الكتب الطبية الخاصة بالسموم. ويرى أخصائيو الأمن الإشعاعي ان مجرد غرام واحد من البولونيوم يمكن ان يقتل 50 مليون شخص ويصيب بالمرض 50 مليون آخرين. ولكن من الصعب تماما الحصول عليه. فما ينتج منه سنويا يصل الى حوالي 100 غرام، وبشكل أساسي من جانب روسيا.

كما انه مادة مراوغة. فبينما تطلق معظم العناصر المشعة أشعة غاما، التي يمكن تسجيلها على اجهزة تسجيل الإشعاع، فان البولونيوم يطلق جزيئات الفا.

وقال ايمسلي انه laquo;ما من سبيل أمام علماء تشريح الجثث لتسجيلهraquo; الى ان يفعل فعله من الدمار.

وعلى خلاف العناصر المشعة الأخرى يعتبر البولونيوم 210 مأمونا نسبيا من حيث نقله. ويمكن لأشعة غاما القاتلة أن تمر عبر معظم المواد، ولكن ألفا، التي تتكون كل جزيئة منها من اثنين من البروتونات واثنين من النيوترونات، يمكن اعاقتها بقطعة ورق أو طبقة خفيفة من خلايا ميتة على سطح البشرة.

ومن اجل ان يقتل لا بد للبولونيوم من استنشاقه أو تمثيله غذائيا حتى يكون على اتصال مباشر مع النسيج السليم في الجسم.

وعلى الرغم من امكانية وضعه في حقيبة صغيرة، فان معالجة الأمر ليست بهذه السهولة. فالطاقة التي تتحرر عندما يتحلل طبيعيا كبيرة جدا بحيث ان اجزاء صغيرة ربما بضع مئات من الذرات في الحجم يطفح الى السطح ثم ينتقل الى الغرفة.ومنذ تشخيص البولونيوم 210 باعتباره المادة التي استخدمت كسم لقتل ليتفنينكو، تمكن المحققون من العثور على آثار له في غرف الفندق والمطارات وغرف السفارة ومواقع أخرى في الولايات المتحدة وأوروبا كان أندريه لوغوفوي الحارس السابق في laquo;الكي جي بيraquo; قد زارها، وهو يعد مشتبها به قويا في قضية التسميم. وقال لوغوف إنه استخدم من دون إرادته أو علمه من قبل أشخاص لا يعرفهم.

وتوجد مستويات ذات تركيز منخفض جدا من البولونيوم 210 فوق قشرة الأرض. وهي تتسرب للمأكولات والماء ويمكن تعقب آثاره عبر دخان السجائر. ومعظم الأجساد تحتوي على مقدار واحد بالمليون من أي جرعة سامة حسبما قالت فيلما هنت، من كلية الصحة العامة في جامعة هارفارد والتي درست آثار البولونيوم 210 الصحية. ومن بين النظائر الخمسة والعشرين للبولونيوم، يعد البولونيوم 210 الأكثر استقرارا. فبعد 138 يوما يتحول نصفه إلى نظير غير مشع ويحتاج إلى ثلاث سنوات للتحول كليا إلى نظير غير مشع، وخلال هذه الفترة يشع كمية معتبرة من الحرارة، فغرام واحد منه يزيد درجة حرارته عن 500 فهرنهايت.

وقد وقع أول موت بهذه المادة عام 1927. وكان أول ضحية هو الباحث الياباني نوبوس ياماندا، من مختبر ماري كوري في فرنسا عام 1924، وكان يعمل مع ابنة كوري ارين جوليو كوري لإعداد مصادر البولونيوم. وبعد عودته إلى بلده في السنة اللاحقة سقط مريضا وتوفي.وكتب لإيرين حسبما ذكرت سوزان كوين مؤلفة كتاب laquo;حياة ماري كيوريraquo;: laquo;كان هناك تسمم من الإشعاعاتraquo;.كذلك سقطت ايرين ابنة كيوري ضحية لهذا النظير المشع وماتت باللوكيميا عام 1956 بعد عشر سنوات من انكسار كبسولة من البولونيوم 210 عرضا في مختبرها داخل معهد راديوم بباريس.

وخلال تلك الفترة تعرض علماء إسرائيليون يعملون على البرنامج النووي الإسرائيلي لتأثيرات هذا النظير بشكل قاتل.

وكانت أول العلامات كافية لاكتشاف وقوع التسرب على مكتب العالم الفيزيائي الإسرائيلي درور ساده. فهو قد أخذ ما كان يعتقده إجراءات كافية ضد العنصر شديد الفعالية. فالإشعاع تم اكتشافه في laquo;حجرتي الخاصة وعلى ملابسي وعلى كل شيء مسستهraquo;.وخلال شهر سقط طالب يعمل في مختبر ساده ومات باللوكيميا. ثم مات المشرف على المختبر بعد سنوات قليلة تحت تأثير انتقال البولونيوم 210 إلى جسده.ولأن حياة البولونيوم قصيرة فإن المحفزات النووية فيه تفقد فعاليتها خلال سنتين ويجب تعويضها. وعند حلول السبعينات من القرن الماضي كان المهندسون قد تخلوا عن هذا النظير واختاروا مكانه نظير التريتيوم الذي يستمر عمره الإشعاعي إلى 12.3 سنة.

لوس انجليس تايمز