السبت 17 فبراير 2007
حازم صاغية
من يتذكّر الأطروحات والنقاشات الشهيرة للستينيات عن quot;العالم الثالثquot; وquot;العالمثالثيّةquot; وشقّ طريق لقوى التحرّر الوطنيّ ودوله الناشئة تأخذها بعيداً عن الاستعمار والإمبرياليّة، أي عن البلدان الغربيّة المهيمنة؟
آنذاك بدت الصين الشعبيّة، والشيوعيّة، أملاً يلمع في سماء البلدان الآسيويّة والأفريقيّة التي استقلّت حديثاً، وصارت أسماء quot;ماوتسي تونغquot; وquot;شوآن لايquot; وquot;ليو تشاوتشيquot; أسماء واعدة: فهم يقودون بلداً ضخماً يشبهنا في التعرّض للاستعمار والتمرّد عليه، وفي محاولة الخروج من التخلّف إلى التنمية بوسائل ذاتيّة، أو شبه ذاتيّة. لكنّهم، إلى هذا، ليسوا أوروبيّين، أي أنهم، كما كان بعضنا يقول أو يضمر، ليسوا مثل الروس الذين، مهما دعمونا، تبقى مصالحهم الأنانيّة ما يحرِّكهم، ويبقى فيهم ما يذكِّر باستعمار شمال الكرة الأرضيّة لجنوبها.
وهذه جميعاً ما لبث أن تبيّن أنّها أضغاث أحلام. فالصين سريعاً ما غطست في همومها، لاسيّما مع quot;الثورة الثقافيّة البروليتاريّة العظمىquot; التي أطلقها quot;ماوquot; لاحتكار السلطة وتوطيد ديكتاتوريّته العسكريّة والحزبيّة. وما أن انتهت تلك quot;الثورةquot; حتّى بدأت تتكشّف للعالم الخارجيّ بلداً شديد القسوة والفقر، يئنّ تحت استبداد غير مألوف حتّى في التاريخ الاستبداديّ الصينيّ نفسه.
كان على بكين، إذاً، أن تنتظر نهاية الماويّة وابتداء المسيرة التي أطلقها quot;دينغ هشياو بنغquot;، جامعاً بين حكم الحزب الواحد وبين ليبراليّة السوق الاقتصاديّة. صحيح أن الاستبداد استمرّ وتعزّز، كما تعاظم الفقر في معظم مناطق الأرياف، إلاّ أن الفقر هذا بدأ ينكمش في المناطق الساحليّة والتجاريّة، ودخلت تلك البلاد المترسملة أبواب ثورة صناعيّة جبّارة، شهيّتها للموادّ الأوليّة بلا حدود.
وفي معنى آخر، صارت الصين أشدّ تعقيداً من أن يختصرها خبر واحد، ووجهة واحدة. فهي، في آن معاً، هذا وذاك. وأهمّ من ذلك، أن quot;الأمميّةquot;، وإن اتخذت شكل التجارة فحسب، بدت ممكنةً مع ترسمل الصين، بعدما كانت quot;الثورة الثقافيّةquot;، الأمميّة لفظاً، قد عزلتها، كليّاً تقريباً، عن العالم الخارجيّ.
كائناً ما كان الأمر، تجدّدت، مع هذه التحوّلات الداخليّة الجبّارة، العلاقة بين الصين وبلدان أفريقيا. إلاّ أنّها، في حلّتها الجديدة، شرعت تكتسي طابعاً لا يربطه مطلق رابط بعلاقات بكين القديمة مع القادة الثوريّين الآتين من أدغال حرب العصابات أو من ثكنات الجيش.
وذروة هذا التوجّه الجديد الجولة التي قام بها مؤخّراً رئيس الجمهوريّة الصينيّة quot;هو جنتاوquot; شاملةً ثماني دول افريقية، ومرفقة بتصريحات متتالية لقادة بكين ووزرائها بأن القروض المقدّمة للقارّة السوداء لن تكون مقيّدة بشروط سياسيّة.
وغنيّ عن القول إن المسيرة الصناعيّة هي التي تدفع الصين في كلّ اتّجاه، من أميركا اللاتينيّة إلى إيران إلى أفريقيا، لتوقيع اتّفاقات تضمن بموجبها ما يلزمها من موادّ أوّليّة، أو تفضي إلى استثمار في مناجم غير مستَغَلّة بما يجعلها تدرّ الموادّ الأوليّة المطلوبة، ناهيك عن تصريف سلع صناعيّة رخيصة التكلفة والثمن في تلك الأسواق.
وفي سيرها هذا، تمضي الصين في تقدّمها نحو أفريقيا، لا تلوي على الانتقادات الغربيّة المتعاظمة في عنفها وفي كثرتها. فمع جولة quot;هو جنتاوquot;، يكون قادة الصين قد زاروا، على مدى الـ13 شهراً المنصرمة، قرابة نصف بلدان القارّة الـ48 التي يقيمون علاقات دبلوماسيّة معها (ومجموع بلدان أفريقيا 53 عضواً في الأمم المتّحدة).
والجولة الراهنة إنّما تبني على قمّة القادة الأفارقة التي استضافتها بكين العام الماضي، وشكّلت الحدث الدبلوماسيّ الصينيّ الأهمّ في التاريخ الحديث للبلد المذكور. والحال أن التركيز المواظب، بل المنهجيّ، على أفريقيا نجح، حتّى الآن، في إنجاز أهداف قصيرة الأمد، مثل تأمين الحصول على نفط من السودان ونيجيريا وأنغولا، ونحاس من زامبيا، ويورانيوم من ناميبيا، وعدد من الموارد الأخرى من دولة جنوب أفريقيا. وتقول الأرقام إن التجارة الصينيّة- الأفريقيّة ارتفعت سنويّاً، في الأعوام القليلة الماضية، بمعدّل 40 في المئة، حتّى أنها بلغت، العام الماضي، إلى رقم قياسيّ هو 55.5 بليون دولار، على ما ذكرت وزارة التجارة الصينيّة. ويُفترض أن تشهد الأيّام المقبلة، وكملحق على جولة الرئيس quot;جنتاوquot;، توقيع اتّفاقات كبرى مع البلدان المشمولة بزياراته، أي الكاميرون والسودان وليبيريا وزامبيا وناميبيا وجنوب أفريقيا والموزامبيق والسيشل.
ولئن كانت الإغراءات التي لوّحت وتلوّح، بها بكين للأفارقة كبيرة، في عدادها توكيد الالتزام الذي قطعته قمّة العام المنصرم بتأمين قروض ومعونات بقيمة 5 بلايين دولار ومضاعفة المساعدات في 2009، فإن هناك صعوبات جدّية أيضاً يجدر عدم التغافل عنها:
فالصين لا تزال تتجاهل الانتقادات الغربيّة التي لا تحُول مطامعها المؤكّدة دون وجاهة بعضها، كالقول إن الصينيّين يستغلّون بطريقة غير عادلة ولا نزيهة موارد القارّة السمراء، كما يخلّون باتّفاقات تمّ التوصّل إليها بشقّ النفس بين الدول التي تمنح المساعدات تقليديّاً لـquot;العالم الثالثquot; في ما خصّ كيفيّة إدارة القروض والأيدي التي سيُعهَد بها إليها. وأحياناً يتراءى كأن النقدين المتبادلين صحيحان في وقت واحد: فضعف علاقة الدولة الصينيّة بالقانون عموماً، واستمرار بعض علاقات العمل العبوديّ في الصين نفسها اعتصاراً لكلّ ذرّة ربح ممكن، لا يشّجعان على الدفاع عن سلوكها في أفريقيا. وفي المقابل، فإن ما يقوله الصينيّون، مستخدمين بقايا اللغة القديمة المناهضة للاستعمار، لا يخلو من صدقيّة: ذاك أن الغيرة والمطامح الغربيّة تضاعف النفور من العلاقات الصفراء ndash; السوداء المستجدّة، فيما الأفارقة يرتاحون إلى الصينيّين أكثر مما إلى الغربيّين لأنّهم لم يكونوا، من قبل، مستعمرين لهم، ولم تربطهم بهم علاقات استغلال وتبعيّة.
مع هذا، هناك إشكالات فعليّة في العلاقة تقع خارج المساجلة الغربيّة- الصينيّة. فبكين تعرّضت، ولا تزال تتعرّض، لضغوط كبرى كيما تدعم الجهود الدوليّة في شأن دارفور وتدفع الخرطوم إلى قبول القوات الدوليّة التي توقف ذبح الدارفوريّين. ولئن كان الموقف الانتهازيّ الصينيّ يسرّ الرئيس السودانيّ عمر البشير، فقد ظهرت مؤخّراً علامات متزايدة على أن بكين قد تدفع غالياً ثمن الارتياح السودانيّ هذا. ففي زامبيا، حيث لبكين مصالح عدّة في حقل التعدين واستخراج النحاس، كان quot;مايكل ساتاquot;، الذي خاض الانتخابات الرئاسيّة ورسب فيها العام الماضي، قد هدّد بطرد المستثمرين الصينيّين في حال انتخابه رئيساً. كذلك خُطف عمال صينيّون في نيجيريا، وإذ يتوالى وصول الآلاف منهم لبناء مشاريع للبُنية التحتيّة هناك، يتخوّف البعض من تكاثر حوادث الخطف على خلفيّة التضارب في الشأن السودانيّ كما في شؤون أخرى. ففي جنوب أفريقيا، مثلاً، وهي كانت، العام الماضي، الشريك الأفريقيّ التجاريّ الأكبر للصين، ردّ بعض الرسميّين وبعض أقطاب القطاع الصناعيّ مشكلة البطالة عندهم إلى تدفّق الألبسة الصينيّة الرخيصة على سوقهم. ويبدو، حسب quot;فايننشيال تايمزquot; البريطانيّة، أن ثمّة تخوّفاً من أن تتحوّل الصادرات الصينيّة تلك، مع الوقت، مصدراً أساسيّاً للتوتّر، لاسيّما إذا ما quot;بدر خطأ أو ضرر لا يمكن الدفاع عنه في تلك السلعquot;، مما قد يتسبّب quot;في اندلاع اضطراب كبيرquot;. وثمّة، وباستمرار، من يشير إلى مخاوف تحفّ بطبيعة قد تغدو quot;استيطانيّةquot; لهجرة اليد العاملة الصينيّة الكثيفة، والتي تزداد كثافة مع تضخّم مشاريع البُنى التحتيّة التي تُقام في أفريقيا.
وقصارى القول إن العلاقات الصينيّة- الأفريقيّة، وامتداد مساجلاتها إلى الأوروبيّين، تطرح جملة من الأمور البالغة الأهميّة، بعضها يتّصل بالماضي الضارب جذره في مسائل التحرّر الوطنيّ وخياراته، مما يردّ إلى القضايا التي أثيرت في الستينيات وكان المثقّفون العرب معنيّين، إلى هذا الحدّ أو ذاك، بها. وبعضها يطلّ على العولمة وإشكالاتها، وعلى تحوّلات موازين القوّة في عالمنا، الاقتصاديّ منها، وربّما لاحقاً، السياسيّ، مما كرّس له نادي دافوس لقاءه الأخير. ومن العلاقة العربيّة بأفريقيا واحتمالاتها على ضوء علاقتها مع الصين، إلى العلاقة العربيّة بالصين على ضوء علاقتها بأفريقيا، ولكنْ أيضاً بإيران، هناك قائمة تبدأ ولا تنتهي لاهتمام من يريد أن يهتمّ.
أوليس غريباً، إن لم يكن معيباً، أن المساهمة العربيّة الوحيدة في هذه المساجلات الغنيّة، المتعدّدة الأبعاد والمضامين، ممارسة القمع العنصريّ للدارفوريّين، وإعطاء حجّة للغربيّين quot;الأعداءquot; في حملتهم على العلاقة بين quot;الصديقينquot; الصينيّ والأفريقيّ؟
التعليقات