عبدالله الزازان

عندما نطبّق التفكير النقدي والتفكير المنهجي على التمييز ما بين المنطق الأرسطي، والذي يقوم على بناء الأفكار، والواقع الذي يعني الوجود الفعلي للأشياء كما هي، نجد أن المنطق الأرسطي لا يعكس الواقع كما هو، رغم إطلاق المنظّرين عليه «علم العلم»، والذي يتمثل في مجموعة من القواعد والمبادئ والأدوات المنظِّمة للتفكير الصحيح، والتي تفضي إلى نتائج صحيحة، والمعيار الذي تُقاس به الأفكار المجنبة للوقوع في الخطأ. في مقابل الواقع الذي يعني ما هو موجود بالفعل، والذي لا يتطابق تمامًا مع المنطق الأرسطي. وناقش هذه المسألة عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي في كتابه «خوارق اللاشعور، وأسرار الشخصية الناجحة»، وهو كتاب يجمع بين التحليل العلمي والقصص الواقعية. تناول الوردي في أحد محاور الكتاب العلاقة ما بين المنطق التقليدي والواقع العملي، حيث يؤكّد على أنّ المنطق الأرسطي منفصل عن الواقع، ويؤدّي إلى ازدواج الشخصية وتبرير المصالح. ويرى أنّ المنطق الصوري الأرسطي معقّد بعيد عن السليقة والطبيعة الإنسانية، مّا يجعله غير صالح للحياة ولا يتلاءم مع الواقع. ويرى أنّ الناس يسعون إلى استخدامه لتبرير أحكامهم، مّا يخلق لهم شخصية مزدوجة، ويراه ظاهرة خطيرة وقع فيها كثير من الدعاة والوعّاظ والمفكّرين والسياسيين، حيث أوقعهم في حالة تناقض بين ما يدعون إليه وبين ما يمارسونه فعلًا. وضرب مثالًا بالشخصية الملتزمة التي تدعو الناس لشيء ولا تطبّقه على نفسها، حيث يُعدّ تناقضًا ونقصاً في صدق الالتزام، خاصّة إذا كانت هذه الشخصية تتظاهر بالصلاح، مّا يُحدث فجوة كبيرة بين القول والفعل، ويجعل منها نموذجاً غير صالح للاقتداء، و الشيء نفسه يحدث مع السياسي الذي يستند إلى المنطق القانوني الدولي في قضية ما، وفي الواقع يلجأ إلى المصلحة والقوّة، مّا يوجد فجوة بين منطقه وفعله. موقف علي الوردي من المنطق الأرسطي كان نقديًا، حيث اعتبره عائقاً للعلم والمعرفة؛ لأنّه يركّز على المقدّمات الثابتة والصورية، بدلًا من الواقع المتغيّر، ما يؤدي إلى ازدواجية الشخصية. لذا دعا إلى منهج جديد يركّز على الاستقراء الواقعي لفهم حركة المجتمع وتناقضاته المتغيّرة، والتي لا تتقيد بقواعد ثابتة، توقع الإنسان في التناقض والازدواجية. فالطبيعي النظر في واقع المجتمع كما هو، لا كما يجب أن يكون، وإن كان الوردي لم يدعُ إلى إلغاء المنطق كليًا، بل إلى التحرّر من قيوده وإلى تبنّي منهج أكثر مرونة وواقعية يعكس واقع الحياة. فالمنطق الأرسطي قاصر عن التعامل مع تعقيدات الواقع باعتماده المفرط على القياس والاستدلال اللفظي، فرغم أنه أرسى أسس التفكير المنظّم، إلّا أنه طالته بعض الانتقادات، التي ركزت على قصوره في إدراك الواقع، وحياة مجتمعات العصر الحديث. يعتقد ابن خلدون أنّ العاميّ البسيط ينجح في الحياة الواقعية أكثر من المفكّر، لأنّه يكيّف نفسه مع الواقع كما هو، من غير أن يلجأ إلى قياس منطقي أو تفكير نظامي، فالمنطق لا يعطي صورة واقعية للحياة. وذلك ناتج عن الفجوة الكبيرة بين رؤية الفكر وقوانين الواقع. وقد نلحظ أحياناً أنّ بعض المفكرين يلجؤون للجدل المنطقي، وهو فن من فنون المنطق عند أرسطو، لإثبات وجهة نظر وتفنيد أخرى، بغض النظر عن الحقيقة، وذلك لدفع تهمة عدم العمق الفكري، باعتبارهم أساتذة كبارا لا ينبغي أن تُردّ عليهم حجتهم، وهذا بلا شكّ وهم كبير. فالمنطق الأرسطي لا يستوعب الواقع المتغيّر، وفهم الواقع المتغيّر يكمن في تحليل الطبيعة البشرية المتغيّرة، وليس في تطبيق القواعد المنطقية الصارمة التي تؤدّي إلى تباين ما بين ما يقوله الفرد وما يفعله. وتؤدي إلى زعزعة الثقة وفقدان المصداقية على المستوى الفردي والمجتمعي.