حسان حيدر
ربما شكل القرار الذي اتخذه طوني بلير بسحب ثلث القوات البريطانية المنتشرة في جنوب العراق، استجابة متأخرة لمطالب غالبية الشعب البريطاني التي عارضت الحرب قبل بدايتها وظلت تعارضها بعد نشوبها، ولا تزال تطالب بانسحاب كامل من هذا البلد. لكن السبب الحقيقي للقرار ليس حساسية مفاجئة لدى رئيس الوزراء للتظاهرات المناوئة للحرب، فهو ابدى لا مبالاة قاسية تجاهها ولم يعرها بالاً حين كانت على اشدها، بل مجموعة عوامل تعكس رغبة حزب العمال الحاكم في تهيئة خلافة سلسة لبلير في حزيران (يونيو) المقبل تبقي السلطة بعيداً من يد المحافظين، واعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية.
فمن المرجح ان يختار العماليون وزير الخزانة غوردون براون لملء المنصب الشاغر في 10 داونينغ ستريت بعد رحيل بلير في أيار (مايو)، لكن الخليفة المحتمل يواجه زعيماً محافظاً، هو ديفيد كاميرون، يشق طريقه بثبات في استطلاعات الرأي التي منحه آخرها 43 في المئة من الاصوات في مقابل 34 في المئة لبراون، مع تدني التأييد الاجمالي لحزب العمال. ولعل بلير، مدفوعا برغبة الحزب، قرر ان يخفف العبء قليلاً عن براون لما قد يشيعه قرار سحب الجنود من العراق من ارتياح في اوساط البريطانيين على اختلاف توجهاتهم. فالتورط البريطاني هناك لم يحظ بالتأييد نفسه الذي لقيته مشاركة بريطانيا في الحرب على افغانستان، وابدى الجمهور البريطاني مخاوف من ان تنعكس سلباً على صورة الامبراطورية السابقة في الشرق الاوسط ككل، وهو ما حصل فعلا. وزادت من تلك المخاوف سلسلة الاعتداءات الارهابية التي شهدتها بريطانيا والتهديدات بتنفيذ اخرى، والتي عزاها الخبراء والمنفذون انفسهم الى الاستياء من التدخل في العراق.
وما يؤكد ان بلير اتخذ قرار الانسحاب التدريجي لسبب آخر غير المعارضة الشعبية للحرب هو ان وزير الدفاع اعلن بعد يومين فقط عن ارسال قوات اضافية قدرتها الصحف البريطانية بأكثر من ألف جندي، الى افغانستان حيث تتزايد هجمات طالبان وتنال القوات البريطانية قسطها منها، ما يعني انه سحب الجنود من العراق ليعيد ارسالهم الى جبهة ثانية. علما ان نظيره الايطالي رومانو برودي اضطر الى تقديم استقالته، جزئياً بسبب معارضة البرلمان زيادة التزامه العسكري الى جانب الاميركيين في افغانستان.
وبالطبع فإن بلير الذي دأب منذ وصوله الى منصبه على تنسيق سياساته مع واشنطن الى حد التلازم، أخذ موافقة البيت الابيض على قراره، لكن ذلك لم يستطع اخفاء امتعاض الاميركيين من الخطوة المحرجة، لأن بريطانيا هي القوة الثانية بعد الولايات المتحدة في العراق، وخروجها التدريجي لا يعني فقط ترك الحليف الاكبر وحده بل قد يشجع دولاً اخرى سايرت واشنطن بمشاركة رمزية على التخلي عن هذا التضامن المبدأي وتركها وحدها في الساحة العراقية.
لقد امكن اساسا اتخاذ خطوة تخفيف القوات البريطانية في جنوب العراق لأن هذه المنطقة تشكل بيئة laquo;متجانسةraquo; يغلب عليها الشيعة، وعمليات المقاومة فيها أقل بكثير من باقي مناطق العراق، وخصوصاً في بغداد وغربها حيث غالبية سنية. اما الهجمات التي تعرض لها البريطانيون في البصرة وجوارها فيرجح انها نتيجة laquo;المماحكاتraquo; مع الايرانيين واستخباراتهم التي كانت ترد على تصلب لندن في ملف طهران النووي.
التعليقات