برنار كاسان - لوموند دبلوماتيك


في المناقشات الحالية التي تجري حول الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة في فرنسا، تظهر من وقت لآخر، عناوين موضوعات لها بعد أوروبي إلى حد كبير. ولكن دون الاعتراف بذلك صراحة. وإذا ما ذهب المرشحون الذين يطرحون مثل هذه الموضوعات إلى نهاية منطقهم، فإنهم سوف يعيدون النظر في الأسس الأيديولوجية للاتفاقات القائمة. فهل كل هذا كلام في الهواء أم التزامات نهائية؟
المستشارة الألمانية ثابتة على موقفها، فهي تنوي السير مجددا بالمعاهدة الدستورية الأوروبية. وفي الواقع فإن ما تريده السيدة أنجيلا ميركل هو التوصل قبل نهاية يونيو إلى اتفاق على خريطة طريق تفضي إلى اعتماد نص لا يمكن لأحد التكهن بمحتواه.

واقع الأمر أن الصعوبات لا تتأتى من الحكومات القائمة. ذلك أن هناك، على نحو أبعد من التداول في السلطة التي حدثت في هذا البلد أو ذاك، خلال السنتين الأخيرتين ثباتا كبيرا في موقفهما من الاتحاد الأوروبي، وهذا الثبات مرجعه الرأي العام في البلدان الأوروبية الذي إذا ما استفتي مجددا حول نص معدل فقد يصوت بلا. سواء أحدث هذا في بولونيا وبريطانيا، أو للمرة الثانية في فرنسا وهولندا. وتوضع فرنسا تحديدا في صلب المشكلة، إذ هناك انتخابات رئاسية وتشريعية ستفضي إلى تجديد الكادر السياسي الذي يقود البلاد، وذلك في أبريل 2007. ثم هناك رئاسة فرنسا للاتحاد في الثلث الثاني من عام 2008، إذن سوف تتم اللعبة كلها في خلال هاتين السنتين القادمتين. والحقيقة أن فرنسا تبدو الأمور بها لم تنطلق جيدا فيما يتعلق بمعاهدة دستورية أوروبية ثانية يجب أن يتم اعتمادها، كسابقتها، بإجماع جميع الدول الأعضاء في الاتحاد.

وليس فقط أن المرشحين الاثنين الأقوى لرئاسة فرنسا، اللذين أبرزتهما استطلاعات الرأي ووسائل الإعلام، سيجولين رويال (الحزب الاشتراكي) ونيكولا ساركوزي ( حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية) لا يطمئنان شركاءهما حول أسلوب إقرار أي معاهدة محتملة، بل إنهما، في أحاديثهما العامة، يعارضان الفكرة ذاتها دون التصريح بذلك مباشرة. فالسيد ساركوزي قد أعلن عن تأييده لصيغة حد أدنى للنص، يتعلق فقط بالإجراءات المؤسساتية، أي أنه يقبل بجزء من القسم الأول من المعاهدة الدستورية الأوروبية التي تشتمل على أربعة أقسام. أما السيدة رويال، فقد أعلنت موقفا مؤيدا لعملية استفتاء شعبي جديدة. والأهم، أنهما في حملتهما، يعمد كل منهما، إلى تبني الحجج الرئيسة لمؤيدي quot;لاquot; ومن ثم التبرير بهذه الـ quot;لاquot; لاحقا. علما بأن الاثنين قد عبرا بحماس عن تأييدهما لـ quot;نعمquot; من قبل، ففي مؤتمر الحزب الاشتراكي الأوروبي الذي انعقد في بورتو في البرتغال، أعلنت السيدة رويال عن موقفها الداعي إلى إعادة النظر في استقلالية البنك المركزي الأوروبي الذي هو الأساس في معاهدة ماستريخت التي انعقدت عام 1992، والتي تؤكد المعاهدة الدستورية مضمونها. وقد صرحت السيدة الشهيرة وقتها: فيما يخص البنك ليس السيد تريشيه ـ رئيس البنك ـ هو من يقود مستقبل اقتصادنا، بل يعود الأمر إلى القادة الذين تنتخبهم شعوبهم.

أما السيد ساركوزي، فقد طالب سابقا من جهته، بإعادة البحث في وضع وأهداف البنك المركزي الأوروبي، ولم يرغب حينئذ السيد دومينيك دوفيلبان في إفساح المجال لساركوزي كي يزايد عليه، فأخذ يهاجم بدوره مبدأ اليورو القوي، ويدعو إلى توضيح الأدوار بين البنك المركزي الأوروبي والزعماء السياسيين في منطقة اليورو.
لكن هذا ليس كل ما في الأمر، فها هما الدولتان الرئيسيتان المرشحتان للانضمام إلى الاتحاد تشككان في المبدأ الرئيسي في المعاهدات الأوروبية، وعلى الأخص في المؤسسات المتعددة الأطراف، من منظمة التجارة العالمية إلى منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، أي في مبدأ التبادل الحر. والسيدة رويال لا تجد تعبيرات قاسية بما فيه الكفاية إزاء تحول الشركات إلى البلدان الأرخص. والسيد ساركوزي، الذي يحنو على فرنسا المتضررة، قد صرح مؤخرا أن quot;ديانة التبادل الحر المطلق هي تضحية بالذات. فلا يمكن للتبادل الحر أن يصبح عقيدةquot;. فهل يجب أن نذكره هنا أن هذا المبدأ هو من الحريات الأساسية الأربع التي وضعت للاتحاد الأوروبي؟

إن المسألة الأوروبية التي لم تتناولها الحملات الانتخابية إلا مواربة، والواردة مؤخرا في برنامج أحزاب الحكم، تبدو وكأنها تطغى على كافة المسائل بقدر ما تسمح أو لا تسمح بهوامش مناورة لتنفيذ المشروعات الوطنية التي ما تزال حتى اليوم في صلب موضوع الانتخابات. فمن الحق إذن مطالبة كل الذين يستجدون أصوات الناخبين أن يوضحوا، قبل اتخاذ أي موقف، كيف سيتعاملون مع مستلزمات المعاهدات الأوروبية الحالية والمستقبلية. ففيما يتعلق بسياسات أسعار الصرف في البنك المركزي الأوروبي، فحتى الإمكانيات الضئيلة التي تسمح بها القوانين قد بقيت غير مستخدمة.فالمادة 109 من معاهدة ماتريخت، قد نسختها مادة أخرى من المعاهدة الدستورية الأوروبية، تحدد أنه بإمكان المجلس أن يضع التوجهات العامة لسياسات أسعار الصرف إزاء العملات الأخرى. لكنه حتى هذه اللحظة لم تضع الحكومات أيا من هذه التوجهات.

وإذا كان من المفترض تعديل أوضاع ومهمات البنك المركزي الأوروبي وفرض عملية توفيق مالية واجتماعية أوروبية، وإعادة النظر في إجراءات سياسة التبادل المفرطة في الحرية في المعاهدة الدستورية للتصدي لموجة انتقال الشركات والمعامل التي تندفع يوميا تقريبا. فالأمر مختلف تماما: إذ لابد من التفاوض على معاهدة جديدة تقطع كليا مع المعاهدة التي تريد الرئاسة الألمانية إنقاذ جوهرها بأي ثمن كان.

ومن المؤكد أنه ليس هناك أي فرصة كي ينال مشروع من هذا النوع موافقة أية حكومة أخرى بسهولة. فحتى السيد مارتن شولتز، رئيس المجموعة الاشتراكية في البرلمان الأوروبي والذي يكون حزبه الاشتراكي الديموقراطي جزءا من التحالف الحاكم في برلين، قد صرح بأن السوق الأوروبية الموحدة تضرب حاليا، ما حققته الحركة العمالية على مدى 140 عاما من نضالها. وإذا كان المرشحون للانتخابات القادمة جديين، فعليهم أن يصارحوا المواطنين عما سيكون ردهم على هذا (الحكم النهائي المعلن بعدم قبول الدعوى) إن لم يكن لوضع معاهدة جديدة، فعلى الأقل لوقف تفكيك منجزات 140 عاما من النضال نهائيا، ولكي تنفتح أزمة أوروبية حقيقية تطرح كل القضايا على أرضية البحث. فهؤلاء المرشحون يملكون وسيلة قانونية منسية، لم يعلن أبدا عن بطلانها: وهي تسوية لوكسمبورج. وبمجرد التذكير بهذه الفترة التاريخية، سيعم السخط في أوساط كل أصحاب النزعة الأوروبية، لكن المقصود هنا هو سياسة التغييب، التي قررها الجنرال ديجول التي تفترض أن تحظى السياسة الزراعية المشتركة بالتمويل اللازم ولكن القائم خصوصا على مساهمة الدول. وهذا لم يكن واردا في نظر رئيس المفوضية في ذلك الحين.

ولما كانت السياسة الزراعية المشتركة خاضعة لمبدأ التصويت بالأغلبية، كانت فرنسا تبدو مهزومة سلفا، لذلك لجأت إلى تعليق مشاركتها، من يونيو 1965 إلى يناير 1966، على مستوى الوزراء والموظفين في جميع اجتماعات الاتحاد. وهكذا حصل ديجول على ما يبتغيه في تسوية لوكسمبورج. ونص الاتفاق بوضوح على أنه عندما تكون المصالح الهامة جدا لدولة ما على المحك في قطاع تقرر فيه التصويت بالأغلبية، يمكن عندها استئناف المفاوضات للتوصل، في وقت مناسب، إلى موقف بالإجماع، ويعاد العمل بقاعدة الإجماع حيث لم تكن مقررة. ومن هذا الذي يشكك في أن مصالح الديموقراطية التمثيلية ليست هامة جدا؟

ما هو قائم الآن، أن جميع إجراءات تحرير السوق الداخلية تلك التي لها أكثر الانعكاسات سلبية على المواطنين، تخضع للتصويت بالأغلبية. وإذا ما لوحت الحكومة الفرنسية بتسوية لوكسمبورج لإيقاف الإجراءات فهي بالتأكيد ستستجلب غضب سائر أصحاب التفكير القويم، لكنها ستحظى باحترام الناخبين. وهي بذلك ستقيم ميزان قوى جديداً ليس في فرنسا فقط، بل في أوروبا كلها، حيث عشرات الملايين من المواطنين يتوقعون من الاتحاد الأوروبي شيئا آخر غير هذه الأصولية التجارية الحالية.