غازي العريضي


ينتظر اللبنانيون كل الاستحقاقات الدولية والإقليمية لمعرفة كيفية مواجهة استحقاقاتهم، وكـأن ثمة قناعة راسخة بأن لبنان يُقرأ من الخارج. أو بالأحرى أن التطورات في لبنان تُقرأ من الخارج. كما أن هذا الخارج، يعرف الكثير من الأمور، ويقرّر الكثير من الخطوات، انطلاقاً من معرفته بما يجري في الداخل اللبناني.
يفسر البعض هذا الترابط، أو هذه الجدلية بالتنوع اللبناني، والامتدادات الخارجية له، لأنه تنوع مبني في الأساس على الانتماءات الطائفية. وإذا كنتُ أفهم هذه الجدلية انطلاقاً من التجارب في تاريخ بلدنا، فإنني أكرر التمني والقول والقناعة دائماً، بأن هذا التنوع يجب أن يكون مصدر غنى للبنان. والإنسان اللبناني الفذ الخلاّق البارع المنتج والمبدع في الخارج، في كل دول العالم، وفي كل المجالات، لا يجوز أن يكون غير قادر في لبنان. غير قادر على ابتكار الصيغ والأفكار، التي توازن في حسابات المعادلة اللبنانية ومتطلباتها بين قراءة واقعية للداخل وقراءة واقعية أخرى للخارج. ثمة قناعة يكررها كثيرون تقول في رد على هذه النظرة للبناني، وفي محاولة فهم هذا السر اللبناني: quot;إن اللبناني ناجح كفرد، أما اللبنانيون فلم ينجحوا كجماعةquot;! وquot;إن اللبنانيين في الخارج أكثر تعلقاً بوطنهم وانسجاماً مع بعضهم بعضاً، مما هم عليه في الداخلquot;.

هذا أمر بقدر ما فيه تقدير واعتبار لقيمة الفرد اللبناني، فهو لا يرقى إلى مستوى الاستفادة منها وترجمتها في عمل الجماعة. وللأسف، فإن التجربة علمتنا أن هذا الشيء صحيح إلى حدود بعيدة. لقد عاش لبنان 15 سنة من الحرب الأهلية تخللتها حروب مختلفة طائفية وحزبية وسلطوية وحروب الآخرين، معظم الآخرين على أرضنا. ولذلك أقول دائماً الحرب المذكورة كانت حرب الحروب. وأخطر ما في الأمر اليوم، وأمام كل مرة يُذكر فيها مصطلح الحرب الأهلية، ويهدد البعض بها، أو يشير البعض في معرض التحليل إلى مخاطر تجددها، ويعتبرها آخرون واقعة لا محالة، أخطر ما في ذلك أنك تشعر بأن اللبنانيين لم يتعلموا شيئاً مما جرى. تغيرت التحالفات والحسابات والسياسات والنتيجة واحدة. انقسامات وخلافات وصراعات وربما صدامات وحروب كما يقرأ البعض، وبالتالي مزيد من الخراب والدمار والتراجع والانهيار، وتنظيم لإيقاع الحركة السياسية في الداخل انسجاماً مع إيقاع الحركة والحسابات في الخارج.

انتَظروا زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى المملكة العربية السعودية، ثم زيارة الرئيس حسني مبارك إليها، وما نقله بعدها إلى القيادة السورية. ثم القمة الإيرانية- السعودية وما نتج عنها كتتويج للاتصالات التي كان يقوم بها الدكتور علي لاريجاني والأمير بندر بن سلطان. وانتظروا خطاب الرئيس السوري بشار الأسد في الثامن من مارس، علـّه يتقدم خطوة في اتجاه تصحيح الخطيئة التي ارتكبها بحق القادة العرب. وينتظرون قرارات مجلس الأمن المقبلة، فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني، وبالقرار 1701، وتقرير المحقق الدولي quot;براميرتزquot; في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، وينتظرون في نهاية الشهر الجاري القمة العربية، التي ستعقد في المملكة العربية السعودية.

وفي الانتظار، ينتظرون نتائج لقاءات هذا المسؤول اللبناني هنا أو هناك مع هذه الدولة أو تلك، ويرصدون علاقات بعضهم بعضاً مع هذه الجهة أو تلك، ولا يحصل شيء في لبنان. وكأن وتيرة التصعيد مربوطة بإشارات أو تقاطعات أو حسابات من الخارج. وغالباً لمصلحته وليس لمصلحة اللبنانيين. أو كأن عدم الإقدام على خطوة في الداخل هو جزء من لعبة الخارج. وليس لمصلحة لبنان واللبنانيين أيضاً.

مرت محطات كانت منتظرة، ولم يحصل شيء. وثمة محطات أخرى، وقد لا يحصل شيء بالمعنى الإيجابي للكلمة. وساعة يريد الخارج الخروج من quot;همومناquot; وquot;أزماتناquot; يقول: ليتفق اللبنــانيون مع بعضهم بعضاً، ونحن ندعم ما يتوافقون عليهquot;. وفي هذا الجانب ثمة تجربة حصلت وأجمعنا على كثير من الأمور لكن الخارج (السوري والإيراني) لم يترجم أقواله إلى أفعال -بالتحديد عندما أقر الاتفاق وبالإجماع حول عدة أمور على طاولة الحوار في مارس من عام 2006 .

لن يحنَّ أحد على لبنان أكثر من أهله. ولن يحب أحد لبنان أكثر من أهله. ولا يعرف أحد مصلحة لبنان أكثر من اللبنانيين إذا كانوا صادقين في انتمائهم ونياتهم. وبالتالي تقع على اللبنانيين أنفسهم مسؤولية كبرى في مقاربة ومعالجة الأمور. ويجب أن يبقى هامش واسع لكل فريق منهم يقدّر فيه المصلحة الوطنية، دون إسقاط واقع قائم، يقول بترابط أو جدلية بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية. ولكن لننظر على الأقل إلى الدول الأخرى المعنية، والمدركة لهذه الجدلية والمؤثرة فيها، فهي تنطلق من تغليب حساباتها ومصالحها على أي حسابات أو معادلات أخرى. وهذا ما يجب أن يكون في لبنان: نحترم دستورنا. ومؤسساتنا. ونفكر بوطننا. ونتفق على انتمائنا الواحد له. نرسخه. ونحترم حقوق بعضنا بعضاً، ونطور تجاربنا، ولا سبيل إلى ذلك إلا الحوار... والشجاعة هنا في الإقدام عليه، وفي طرح الأفكار ومخاطبة العقول. ولا يجوز الانتظار للإقدام على ذلك. فلا الاعتصام في وسط البلد حقق إيجابيات بل بات كثيرون يتحدثون عن سلبياته. ولا التحركات غير السلمية وغير الحضارية وغير الديمقراطية التي شهدناها حققت الأهداف المعلنة.

ولا المكابرة يمكن أن تؤدي إلى نتيجة. وحده الاعتصام بالحوار لا يفرّق. ووحدها التحركات العقلانية هي التي تؤدي إلى الاتفاق. فلنعتصم بالحوار ولنتصرف بحكمة وعقلانية.
وتبقى أمامنا فرصة الاحتضان الدائم والدعم المفتوح من المملكة العربية السعودية، التي لم تضع شرطاً على أحد، ولا تقبل أن توضع أمامها شروط للمساعدة، والتي تتميز عن غيرها من سائر الدول الكبيرة والصغيرة بأنها لا تبحث عن مصالح خاصة لها في لبنان وتتعامل مع كل الأطراف اللبنانية، ويستقبل سفيرها ممثلي هذه الأطراف، يستمع إليهم، يتفاعل معهم، بما يضفي صدقية على الحركة والالتزام تجاه لبنان.