إبراهيم البليهي
إن التعليم من دون الفكر النقدي لا يكون مجدياً بالمستوى المتوقع بل ربما أحياناً يكون ضرره أكثر من نفعه لأنه يوسِّع دائرة المسلمات ويزكي الأوضاع ويرسِّخ السائد ويوهم الدارسين بامتلاك الحقيقة إنه يعوِّدهم على التلقي والقبول دون مساءلة فيبقون طول حياتهم تابعين قانعين منقادين وغير قادرين على التفكير المستقل
فهم لم يعتادوا على التساؤل ولم يتدربوا على تحليل الآراء والمواقف والأحكام ومحاكمتها وإنما يصدِّقون كل ما يتلقونه من المعلمين أو من البيئة دون شك فالحرمان من الفكر النقدي المحرِّك يعني استمرار الوثوق الأعمى وهيمنة المسلَّمات وجمود الأفكار وديمومة الأوضاع، وأما نتيجة ذلك فهي الحرمان من التطور الحضاري فالأصل في الثقافات أنها محكومة بقانون القصور الذاتي ولا يحررها من هذا الدوران العقيم سوى الفكر النقدي بكل أبعاده.
وبهذا يتضح أن تأسيس الفكر النقدي وإدراك أهمية الشك في المألوف واعتماد المراجعة وتكرار إعادة بناء المعرفة كان سبقاً عظيماً مدهشاً للثقافة اليونانية في القرن السادس قبل الميلاد لأنه يمثل طفرة ثقافية هائلة قفزت بها من مستوى ترديد الموروث وتقديسه والاستسلام له إلى مستوى وضع هذا الموروث موضع المساءلة والتمحيص والانطلاق في إنتاج المعرفة ومواصلة تعميقها وتوسيعها وإجراء التنقيحات المستمرة عليها، وبذلك حقق اليونانيون تغييراً نوعياً في الفكر البشري وهذا السبق العجيب هو الذي مكَّن الأوروبيين من أن يُفلتوا من أسر المسلَّمات في العصر الحديث حين استعادوا الفكر اليوناني كما أتاح لهم أن يوجِّهوا الطاقات العقلية لفهم الكون والإنسان والمجتمع وأن يثابروا على استخلاص الحقائق وهو الذي علَّمهم مداومة المراجعة وتكرار التمحيص وتطوير الرؤى واستصحاب الشك واستبعاد الوثوق وإعادة التحقق وهو الذي أشبعهم بروح المغامرة واقتحام المجهول ومواجهة المخاطر والحرص على الكشف والإقدام الجريء في كل مجالات الفكر والفعل...
لذلك فإن الحديث عن الفكر النقدي ليس مجرد حديث عن عامل حضاري مهم وإنما هو حديث عن عامل العوامل ومصدر المنابع ومفجِّر الامكانات ومشعل القابليات، فكل العوامل الأخرى تبقى كليلة بدونه أما به فإن كل العوامل تتحرك وتؤثر وتُثمر وتأتي بإعجاب النتائج..
وبذلك لا يكون الحديث عن الفكر النقدي حديثاً نافلاً أو يمكن تأجيله أو الاستعاضة عنه بأي عامل آخر فهو روح الحضارة وهو محرك الإبداع وهو منبع الإنتاج وهو صانع الازدهار وهو الذي أخرج العقل البشري من كهفه وأيقظه من سباته وهو الذي أجج قابليات الإنسان وهو الذي طوَّر قدراته، إنني حين أتتبع خطوات نقد المسلَّمات في الفكر الإنساني فإن الذي يعنيني من ذلك هو إظهار الفاعلية العظيمة لهذا العامل المحرِّك وتأكيد الضرر الفظيع للمسلَّمات الخاطئة المقعدة فهي تعطل عقل الفرد والمجتمع فلا بد من إبراز أولوية النقد كشرط مبدئي لازدهار المجتمع وتطور الحضارة، فكل محاولات التحديث وكل جهود التنمية وكل نشاطات التعليم والإعلام والتثقيف تبقى كليلة وعاجزة ما لم تكن مصحوبة بالفكر النقدي..
ومن هنا جاءت أهمية استعراض أبرز الخطوات التأسيسية في تاريخ الفكر النقدي وليس المهم مقدار ما في هذه المحاولات المبكرة من صواب أو خطأ وإنما المهم أنهم في ذلك العصر القديم قد أدركوا بعبقرية خارقة تلقائية تلبُّس العقل البشري بالمسلَّمات الخاطئة واكتشفوا استسلامه للمألوف دون تمحيص كما أدركوا خفاء الحقيقة ووثقوا من صعوبة استخلاصها كما أدركوا سذاجة الوثوق الأعمى الذي هو الطابع السائد لكل الثقافات التي لم تتأسس على الفكر النقدي..
وإذا كان الفلاسفة المؤسسون قد تركَّز اهتمامهم على فهم طبيعة الكون ومحاولة التعرُّف على قوانينه فإن فلاسفة المرحلة الفلسفية الثانية ويأتي في مقدمتهم (إكزينوفان) قد لفت نظرهم الاختلاف الشديد بين ثقافات الأمم وما تضمنه من عادات متعارضة أحياناً وقيم مختلفة وتصورات متصادمة إلى درجة أنهم يتقاتلون بسبب هذه الاختلافات ولا تكاد أمة تفهم ثقافة أمة أخرى أو تستسيغها واستنتجوا من ذلك أن العقل البشري مأسور بالأوهام ومعطل بالمسلَّمات فانصب اهتمامهم الرئيسي على إعادة فحص المعرفة البشرية وتعرية ضلالات المسلّمات التي يخضع لها الناس تلقائياً، لقد اهتموا بكشف سذاجة الوثوق الأعمى وأعلنوا صعوبة استخلاص الحقيقة ففضحوا أوهام الناس وعرَّوا تحيزات البشر وتهكموا بالثقة التي يضفيها أبناء آدم على آرائهم ومعتقداتهم التي لم تتعرض لأي فحص أو مراجعة فكان (إكزينوفان) يسخر من عبادة الأوثان ويدعو إلى توحيد الخالق وكان حريصاً على أن يكشف للناس وقوعهم في مصيدة الوثوق الأعمى التلقائي وأن يبين لهم تهافت التصورات الخرافية التي يؤمنون بها وأن ينبههم إلى نقائض المسلّمات التي يتوارثونها فهو يعتقد أن معارف البشر كلها ظنون واهية وتخمينات هشة والأهم من ذلك أنه لا يستثني نفسه بل يستبعد قدرة الإنسان على التحقق النهائي في أية حقيقة أما النجاح العملي فليس دليلاً على امتلاك الإنسان للمعرفة اليقينية المحققة وإنما علمته الممارسة أي الأشياء أفضل دون أن يعرف سبب هذه الأفضلية ويقول: quot;إن معرفتنا مجرد ظنون أما ما يتعلق بالحقيقة النهائية فإن الإنسان لم يعرفها بعد ولن يعرفها في المستقبل وإنني لأعترف بأنه حتى كلامي هذا ليس حقيقة نهائية ولو أن رجلاً اكتشف عن طريق الصدفة الحقيقة النهائية لأمر من الأمور فلن يعرف ماذا اكتشف لأن جميع أعمالنا ليست إلا ظنوناً مثل نسيج العنكبوتquot; إن هذا النص المدهش الذي ترجمه الدكتور محيي الدين صبحي له ترجمات عديدة لأنه يتكرر الاستشهاد به في الفكر الفلسفي والنقدي الغربي بل إن فيلسوف العلم الشهير كارل بوبر يعدُّه نصاً تأسيسياً أصيلاً ويكرر الاستشهاد به وقد ترجمته الدكتورة يُمنى طريف الخولي هكذا: quot;لكن بمرور الوقت ومن خلال البحث قد نتعلّم ونعرف الأشياء بصورة أفضل وبالحدس نرى أن هاتيك الأشياء التي نتحدث عنها وحتى إذا تفوّه أحد مصادفة بالحقيقة النهائية فإنه هو نفسه لن يعرف هذا، فالأمر جميعه لا يعدو أن يكون شبكة ننسجها من التخميناتquot; ولنا أن نتخيَّل كيف أن أكزينوفان في القرن السادس قبل الميلاد كان يتجول في المدن والأحياء ويرتاد المنتديات والأسواق ويعلن هذا النقد الجذري أمام الملأ لندرك كيف كان اليونانيون سابقين لعصرهم سبقاً يثير العجب والذهول وليس مقارنة بمعاصريهم بل مقارنة ببعض الثقافات التي مازال أهلها يعيشون في القرن الحادي والعشرين!!!
إن النقد الثقافي الذي أسسه (إكزينوفان) هو نقد خارق لم يسبقه إلى مثله أحد من البشر فالنقاد كانوا يستثنون أنفسهم من النقد ويطالبون الناس بالخروج من وثوق أعمى إلى وثوق آخر مغاير. ففي كل العصور تتبادل الثقافات النقد لكن كل ثقافة تدعي أنها وحدها تملك الحقيقة فهي لا تشكك بذاتها وإنما تحصر الشك بثقافات الآخرين وأيضاً في كل العصور يخرج في المجتمعات من ينتقد ما يعتقده الناس لكن هؤلاء النقاد يعلنون أنهم وحدهم يملكون الحقيقة فهم يطالبون المجتمع بأن يتخلى عن مسلَّماته وينقاد لهم ويعتنق مسلَّمات بديلة فيخرج المجتمع بذلك من وثوق إلى وثوق آخر، فالجديد في نقد (إكزينوفان) ومن جاؤوا بعده من الفلاسفة الأفذاذ أنهم ينتقدون الثقافات البشرية كلها كما ينتقدون أنفسهم فهم يعلنون أنهم مثل غيرهم من الناس واقعون في الأوهام والظنون والتخمينات وأن كل ما يعتقدونه علماً ويتوهمون أنهم يعرفونه ليس أكثر من تخمينات لم يحصل التحقق منها إنهم يلفتون الأنظار إلى هشاشة الأساسات التي بُنيت عليها المعرفة البشرية وضرورة إخضاعها جميعاً للنقد الدائم والتصحيح المتكرر وهنا يصبح النقد أداة حاضرة ومتحفزة لتكرار غربلة المعرفة وتصير المراجعة الدائمة ملازمة لعملية التعلُّم بوصفها عملاً منهجياً دائم الحضور، فالنقد يصاحب التفكير في كل خطوة من خطواته ويلازم التعلُّم في كل مسألة من مسائله ويبقى الإنسان مدركاً لضعف الأساس الذي بنى عليه آراءه وأحكامه، إن هذا الإدراك يجعله منفتح العقل ليسمع كل الآراء ويُصغي لكل الأفكار وينتبه لجميع الملابسات ويضع حساباً لكافة الظروف ويظل مستعداً لتعديل آرائه ومراجعة مواقفه والعدول عن أحكامه متى تبين له ما يستوجب ذلك..
إن من يقرأ التاريخ البشري يجد أن كل دعوة من الدعوات كانت ثورة على ثقافة سائدة وتصحيحاً لأخطاء واقع معيَّن لكن الدعوات نفسها تعود على أيدي الاتباع إلى ثبات مغلق وسيادة مطلقة، فالداعية أو المصلح يصبح رمزاً لا يحق لأحد أن يتجاوزه فتبقى الثقافة مأسورة له ويظل المجتمع سجين أقواله فلا تستمر النتائج الجيدة التي أرادها المصلح واستهدفها الإصلاح وإنما تعود الثقافة إلى الجمود وتعود الأوضاع إلى ما كانت عليه أو أسوأ إن الأتباع يتوهمون أن ما تحقق هو الغاية القصوى التي ليس بعدها غاية يمكن السعي إليها فيميلون إلى تقديس المتحقق وحمايته من النقد والتعالي به عن المراجعة فيعود الوثوق الأعمى وتتجمد المواقف والآراء وهذا هو المال الذي حاولت الفلسفة النقدية التي ابتكرها (إكزينوفان) أن تحمي الناس منه فلا جدوى من الانتقال من تقاليد ثابتة مغلقة إلى تقاليد أخرى ثابتة ومغلقة أيضاً، وإنما الجدوى كل الجدوى في استمرار النقد والحث والتحريض على التحقق واستقطاب أفكار جديدة ورؤى جديدة تتعرض هي الأخرى للنقد ثم التجاوز في سلسلة لا تتوقف من الحركة والتقدم نحو الأفضل على كل الجبهات، فالنقد يجب أن يظل حركة لا تهدأ وجهاداً لا ينقطع فهو ليس موجهاً لحالة بعينها أو لوضع قائم في فترة من فترات التاريخ دون غيرها وإنما هو نضال عقلاني دائم، إن النقد لا يحاكم جموداً أو وضعاً سيئاً ثم يزكي ما يتمخض عنه وإنما النقد يستمر في محاكمة اللاحق مثلما حاكم السابق فهو الوقود الضروري لحركة الحضارة..
لقد أدرك أولئك الفلاسفة العظام بثاقب الفكر وقوة الاهتمام وعميق التأمل وموضوعية المقارنة أن العقل البشري قابلٌ لعطاء بشكل تلقائي فالتقاليد الثقافية تميل تلقائياً إلى الثبات والدوران والتآكل إذا هي فقدت التحدي مما يستوجب مداومة النقد ومواصلة التحريك، فالمعارف البشرية شديدة الهشاشة ما لم تتعرض للنقد والفحص والتحليل وكانوا لا يستثنون أنفسهم من هذه الهشاشة فهم لا يرون أنهم على صواب مطلق وأن الآخرين على خطأ محض وإنما لديهم اقتناع تام بأن حظهم من الصواب لا يختلف عن حظوظ غيرهم إلا بمقدار جهد التحقق ونشاط الغربلة ودقة التمحيص بل حتى بعد كل الجهد يظلون مقتنعين بأن ما توصلوا إليه ليس إلا تخمينات قابلة للنقض فهم مستعدون للتخلي عنه متى لاح لهم ضوء من الحقيقة في اتجاه آخر، وهذا الاقتناع بهشاشة المعرفة البشرية ملأهم بالتواضع وحماهم من الغرور وأبعدهم عن التعصب وأهلهم للتسامح وجعلهم يحترمون اجتهادات الآخرين المغايرة ويقدِّرون الخيارات المختلفة ليس قبولاً لها ولا اقتناعاً بها وإنما لوجود قناعة تامة بأن قناعات كل الأطراف مجرد ظنون ومقاربات فلا يوجد ما يبرر الزهو والانتفاش وإنما يقتضي العقل والمنطق أن يتحمَّل كل طرف اختلاف الطرف الآخر وأن يقتنع بأن ما يتوهمه هو علماً ليس إلا مثل ما لدى غيره مما يتوهمه خرافة وجهلاً، فهذا الوهم عند الوثوقيين هو منشأ التعصب وهو سبب العنف المتبادل...
وكان (إكزينوفان) هو المؤسس لهذا المنهج النقدي العجيب لقد جابه الجهالات الراسخة السائدة واعترف أنه هو نفسه أيضاً غارق في الجهالة وأنه لا يطمع بامتلاك الحقيقة ولا يدعي بلوغ اليقين النهائي المطلق لأن هذا المطلب في نظره فوق امكانات البشر إن هذه المجابهة الصريحة والجريئة للسائد قبل ألفين وستمائة عام لهي من أعجب العجب لقد نبَّه (إكزينوفان) إلى أن الناس في كل مكان مأخوذون بأوهام امتلاك الحقيقة إنهم يتشربون الأوهام ولا يخطر على بال أي منهم أن يتشكك فيما برمجه أهله ومجتمعه أو يتساءل عمّا انطبع في أعماقه من تصورات ومواقف دون أي فحص أو مراجعة، لقد أشفق (إكزينوفان) على البشرية من هذا الضياع فأعلن صيحة الفكر النقدي ليطلق العقل البشري من عقاله وليفك أسره من مسلَّماته وليفجر القدرات الكامنة فيه فإذا كان طاليس هو مؤسس الفلسفة التي تعني الرؤية الموضوعية في النظر إلى الأشياء والأعمال والثقافات وفي الحكم على الذات وعلى الآخر المختلف والتخلي عن الأحكام المسبقة الجاهزة والاعتماد في البحث عن العقل وعلى التجربة الفردية من غير التزام بالموروث أو بالسائد، فإن (إكزينوفان) هو مؤسس الفكر الفلسفي النقدي الذي لا يكتفي بأن ينعتق هو من الوثوق الأعمى وأن يتفهم الكون تفهماً عقلانياً وإنما يعنيه إخضاع هذا الوثوق ذاته للمساءلة الدائمة من أجل إعادة النظر وتجاوز المألوف إلى آفاق أرحب وأعظم وهذا تحول بالغ الأهمية في توسيع وتنويع الاهتمامات الفلسفية إنه انشغال بالإنسان وعقله وتفكيره وثقافته وقابليته للعطالة وتأمل باختلافاته الثقافية وتنوع صياغات عقله ومقارنة بين أوضاعه وربط ذلك بطريقة تفكيره التي هي نتاج تنوعات بيئية..
يقول فيلسوف العلم كارل بوير في كتابه (دفاع عن العلم والعقلانية): quot;من أعطاف إكزينوفان تأتينا أقوى وأمضى الصور للطريقة التي يؤدي الصدام الثقافي بالبشر إلى أن يفكروا تفكيراً نقدياًquot; ثم يقول quot;يعمل إكزينوفان الدروس التي تعلمها من الصدام إلى الثقافات الإغريقية والحبشية والتراقية لقد استنتج أن المعرفة البشرية قابلة للوقوع في الخطأquot; لقد لاحظ أن تصورات كل شعب هي نتاج البيئة وتوصل من المقارنة بينها الى النسبية الثقافية فكل أمة محكومة ببيئتها وبالأحكام المسبقة التي تتوارثها وبسبب هذا التوارث البليد وبسبب غياب العقل الناقد تظل الأخطاء الفادحة تشغل أذهان الناس وتعطل عقولهم وتربك حياتهم وتجمّد ثقافتهم..
إن مؤرخي الفلسفة والمفكرين يكررون الإشادة بريادة (اكزينوفان) بوصفه أول فيلسوف شاعر يُنشد للناس أشعاره ليحثهم على التفكير العقلاني ولينقذهم من التفكير الوثني والأسطوري لذلك فإن أندريه ناتاف في كتابه (الفكر الحر) يرى (ولادة الفلسفة في القصيدة) على يديه وبأنه عمل على كسر الأسطورة وأنه من شظايا هذا الانكسار ولد الكلام الفلسفي وهو يرى أنه أول رائد للفكر الحر أما موريس بلانشو فيقول: إن اكزينوفان واحد من أولئك الذين كان افلاطون يدعوهم بالشيوخ كان يرفض الخرافات أما أولئك الذين كانوا يسمعونه فقد كانوا يشهدون ذلك الحدث الشديد الغرابة وهو ولادة الفلسفة داخل القصيدة..
كان كما يرى أندريه ناتاف مؤسساً لخطاب عقلاني ولقول وجودي إنه تطور خارق أتاح للعقل الأوروبي أن يمعن النظر في كل ما حوله وأن ينزع الهالات المحيطة وأن يُعمل أدواته بكل شيء تشريحاً وتحليلاً وبذلك خرجت الحضارة من طور الدوران الى مراحل الصعود اللا نهائية..
لقد توصل (إكزينوفان) بأن البشر بقدر فطنتهم لأخطاء الآخرين يغفلون غفلة مطبقة عن أخطائهم. إنهم يتقبلون أخطاء أنفسهم انحيازاً لها أو جهلاً بحصول الخطأ منها ومع الزمن تتراكم الأخطاء والأهواء ثم تتوارثها الأجيال بوصفها حقائق وفي غياب الفكر النقدي فإن كل جيل يضيف أخطاء جديدة وتظل الأجيال تتوارث هذا الركام من الأخطاء والأهواء والأوهام وبذلك تتراجع الإنسانية بدلاً من أن تتقدم ولا مخرج من هذه النتيجة المأساوية إلا بالفكر النقدي ليعيد غربلة السائد وتمحيصه لذلك لم يخرج من مسارات الدوران الحضاري سوى الحضارة الغربية لأنها تأسست على الفلسفة وعلى الفكر النقدي.
التعليقات