مشعل السديري


لفت نظري أنه بعد الحرب الأخيرة المفتعلة، وغير (المباركة)، التي حصلت على أرض لبنان في الصيف الماضي، أنه خلال شهر واحد من تلك الحرب، هاجر من أهله مئات الألوف، وعرفت أنه منذ الحرب الأهلية التي نشبت بين أبنائه أواسط القرن التاسع عشر، وما تلاها من أزمات وحروب، ابتداءً من الحرب العالمية الأولى، ثم الثانية، ثم نكبة فلسطين، ثم حرب حزيران، ثم اتفاق القاهرة المشؤوم، ثم (فتح لاند)، وما تلاه من اندلاع قتال أكل الأخضر، وترك اليابس، ثم اجتياح إسرائيل عام 82، وأخيراً وصل إلى مرحلة (النصر)، الذي شبّهته أنا بـ (العملية الجراحية)، التي خرج فيها الطبيب من غرفة العمليات ليبشّر أهل المريض قائلاً: أبشركم أن العملية نجحت، غير أن المريض مات، وهكذا هي الحرب الأخيرة: انتصر حزب الله، غير أن لبنان تدمّر.

أعود لما بدأت به من (الهجرات) المتوالية لذلك الشعب على مدى قرنين من الزمان، إلى درجة أن الإحصاءات تقول: إن عدد اللبنانيين الذين هم في ديار المهجر ثلاثة أضعاف عدد سكانه الحاليين.. رغم انني لا اعتقد أن هناك بقعة على وجه الأرض تضاهي جمال لبنان، وإمكاناته السياحية، لولا (البلاوي) التي لا تتركه في حاله.

وبما أننا بصدد الهجرة، فيُقال إن هناك رجلا لبنانياً أواخر القرن 19، ركب الباخرة مهاجراً إلى البرازيل، وأثناء الرحلة توقفت به الباخرة في ميناء مرسيليا الفرنسي، فنزل ذلك اللبناني (المعتّر) للميناء (يطلق أقدامه)، ويتفرج على أهلها، فشاهد رجلين فرنسيين يتعاركان، والناس يمرون من أمامهما ولا يتدخلون، فأخذته شهامة (جبل صنين)، وتدخل ليفض الاشتباك بينهما فناله ما ناله من الضرب، إلى أن حضر رجال الأمن واقتادوا الرجلين ومعهما كذلك (أخونا اللبناني)، وحيث إنهم لم يفهموا كلامه العربي، استبقوه في الحجز حتى اليوم التالي، إلى أن يجدوا ترجماناً لكي يفهموا لماذا يتدخل رجل غريب في ما لا يعنيه.. وأفرجوا عنه في ثاني يوم، لكن بعد أن أقلعت الباخرة وتركته على رصيف الميناء يضرب كفاً بكف، فانقطع المسكين في مرسيليا، وأخذ يهيم على وجهه في شوارعها، وعندما عضّه الجوع اضطر إلى أن يدخل مطعماً شعبياً ويأكل بفرنك واحد، وبعدها خرج لا يدري إلى أين، وعندما (حصره حاصر)، قضى حاجته في أحد المنعطفات، فقبضوا عليه، وغرموه فرنكين, مما دعاه إلى أن يزهد بالهجرة نهائياً، ويعود إلى دياره مرة أخرى على ظهر أول سفينة مغادرة، وليس معه حتى (خفّي حنين).

ويروي سلام الراس أن ذلك اللبناني كان شاعر زجل، فقد قال بعد تلك المناسبة السعيدة:

عشنا بفرنسا يومين/ وعرفناها عالحالين

تتغدى فيها بفرنك/ (وبتقضيها) بفرنكين.

[email protected]