عصام العريان - الحياة

أهم المواد الحاكمة التي تم تغييرها في التعديلات الدستورية الأخيرة في مصر هي تلك التي تتحكم في مفاصل الحياة السياسية، ودعنا من التغييرات الشكلية بإلغاء لفظ الاشتراكية او استشارة رئيس الوزراء أو صلاحيات البرلمان حيث ان البرلمان يأتي بانتخابات مشكوك في نزاهتها تماماً، خصوصاً بعد اقصاء القضاة عن الإشراف الفعلي على الاقتراع، وان رئيس الجمهورية هو الذي يعين رئيس الوزراء ويعزله من دون اي اعتبارات لأغلبية أو أقلية او انتماء حزبي، أو اضافة لفظ المواطنة الى المادة الأولى، إذ أن المادة 40 تقرر هذا الأصل بصورة اشد واكثر تفصيلاً.

أولى المواد الحاكمة هي المادة الخامسة التي أصبحت لا تحظر مجرد قيام الأحزاب على اساس التفرقة بين المواطنين لأي سبب، خصوصاً الدين، بل تمنع قيامها على أي مستند ديني أو مرجعية دينية، وأصبحت تحظر اي نشاط سياسي، وليس فقط إقامة الحزب، على أساس ديني أو مرجعية دينية، وهو نص ليس له مثيل في أي بلد في العالم وجاء مصادماً للرغبة الشعبية في إطلاق حرية تشكيل الأحزاب

كان الجميع يعتبر ان التعددية الحزبية في مصر شكلية ومقيدة وتحجب كثيرا من القوى السياسية في الاتجاهات كافة عن الشرعية القانونية، وان الأمن هو الذي يسيطر على مفاصل الحياة الحزبية ويتدخل في نشاط الأحزاب، وانها محاصرة داخل مقارها ولا تستطيع التواصل مع الشارع المصري.

وكان الطلب الواضح هو النص في الدستور على أن تقوم الأحزاب بمجرد الأخطار أو التسجيل شريطة ألا تميز بين المواطنين في برامجها لأي سبب، وألا تكون لها مليشيات عسكرية أو شبه عسكرية، وبذلك تلغى لجنة الأحزاب التي يسيطر عليها الحزب الحاكم وهي التي تعطي الرخصة القانونية، ومحكمة الأحزاب التي يتظلم أمامها المؤسسون وهي مشكَّلة تشكيلا خاصاً ولا تعتبر قضاء طبيعياً، ويكون القضاء الطبيعي فقط هو صاحب الحق في محاسبة الأحزاب وعقابها او حلها، ويكون الشعب في الانتخابات الدورية هو الحكم الأصيل على شعبية الأحزاب.

هل يعني النص الجديد ان بقية التيارات السياسية غير الإسلامية ستكون لها حرية التأسيس؟

قطعاً لا، فليس هناك اي ميزة لبقية القوى، ومازالت الإجراءات المقيدة كما هي، والإجراءات العقيمة كما هي، بل التشدد هو الذي يسود الموقف، وما رفض طلب 12 حزباً، قبل شهور قليلة، عنا ببعيد، وهي تمثل كل ألوان الطيف السياسي.

إذاً لا انفتاح سياسيًا يتعلق بالتعددية الحزبية، الهدف هو إقصاء laquo;الإخوانraquo; عن الحياة الحزبية والنشاط السياسي وليس تقوية الحياة الحزبية او الأحزاب القائمة بالفعل.

المادة الأخرى الحاكمة هي المتعلقة بالحريات العامة والشخصية: المادة 179 وهذه المادة تتعلق بمكافحة الإرهاب وسيصدر قانون جديد لمكافحة الإرهاب بموجبها. الهدف من هذه المادة هو التمهيد لإلغاء حالة الطوارئ المعمول بها في مصر لأكثر من 50 سنة منها 26 سنة متواصلة هي فترة حكم الرئيس مبارك.

عطلت هذه المادة الجديدة ثلاث مواد نعتبرها دُرر الدستور المصري في حماية الحريات هي المواد 41 و44 و45، هذه المواد تحمي الحرية في التنقل وتحرم القبض على المواطن إلا في حالة التلبس، وتشترط اذن القضاء او النيابة لضبط أي مشتبه به، وتحمي حرمة السكن وسرية الاتصالات.

الجديد أن المادة اعطت سلطات الأمن صلاحيات مطلقة لانتهاك الحريات الشخصية من دون حاجة الى فرض حال الطوارئ.

قد يُقال إن هذا ضد الإرهابيين، وهنا نعود الى تعريف الإرهاب الذي تحدده المادة laquo;86 مكررraquo; في قانون العقوبات والتي توسع التعريف الى حدود مطاطية جداً تجعل مجرد الإخلال بالنظام العام او الترويع عملاً ارهابياً، وهذا يضع كل المتظاهرين والصحافيين والسياسيين المعارضين تحت طائلة القانون، فضلاً عن التيارات المحجوبة عن الشرعية.

الجديد، إذاً، هو تطبيع حال الطوارئ وتحويلها الى قانون عادي. ولعل احد الأسباب هو غياب السياسة وحضور الأمن واعتياد جهات الأمن على صلاحيات استثنائية طوال عهود مديدة، ما جعل عودتها الى الالتزام بالقانون والدستور امراً عسيراً.

نحن أمام استمرار أو ازدياد تدخل الأمن في الحياة العامة والنشاط السياسي ورفع الحماية القانونية عن المواطن المصري ودخول معظم الناشطين السياسيين في دائرة الاشتباه. وليس هذا هو الاعتداء الوحيد على القضاء الطبيعي في هذه المادة، فالأخطر هو النص في المادة نفسها على حق رئيس الجمهورية في احالة اي متهم او اي جريمة على أي جهة قضائية ينص عليها الدستور او القانون أو ينشئها الرئيس استثناء، وبذلك تتم احالة المدنيين ليس فقط الى المحاكم العسكرية التي هي مجالس عسكرية لا يتمتع أعضاؤها بأي حصانة قضائية ولا تكفل أمامها ضمانات الدفاع وليس لأحكامها استئناف... وتريد الحكومة أن تجمّل صورة المجالس العسكرية بتقديم مشروع قانون يجعل التقاضي أمامها على درجتين، وهو لا يجعلها قضاءً طبيعياً أبداً، إذ أن الحصانة مفتقدة في اعضائها الذين لا يتمتعون بالاستقلال.

المادة الحاكمة الثالثة هي المادة 88 التي تتعلق بالإشراف القضائي على الانتخابات العامة، والتي فسرتها المحكمة الدستورية العليا بأن يكون هناك قاضٍ لكل صندوق لضمان نزاهة الانتخابات العامة.

كان الأمل انه باستمرار الإشراف القضائي تزداد ثقة الناخب المصري في الانتخابات، فتزداد نسبة المشاركة وتنشط الحياة البرلمانية وتزدهر الحياة السياسية ونحقق انفتاحاً سياسياً من اسفل الهرم السياسي.

وكان للإشراف القضائي في الانتخابات الأخيرة على رغم كل الصعوبات التي واجهها القضاة الفضل في فوز 120 معارضاً في انتخابات 2005، منهم 88 نائباً من الإخوان، وطالب القضاة عبر ناديهم بأن يمتد اشرافهم الى إعداد جداول الناخبين والسيطرة على خارج اللجان، للحد من اغلاق الأمن للطرقات ومنعه الناخبين من الوصول الى الصناديق.

كانت المفاجأة ان التعديل الجديد سلب القضاة هذا الاشراف المنقوص، واصبحت نزاهة الانتخابات في مهب الريح، وبذلك سيفقد المواطنون الثقة في العملية الانتخابية ويزداد اليأس من التغيير السلمي عبر الصناديق الانتخابية، وتفقد الاحزاب السياسية اي امل في زيادة نسبة تمثيلها في البرلمان، وتصاب الحياة الحزبية والسياسية في مقتل.

وقلصت التعديلات ايضاً حقوق المواطنين في الترشيح في تعديل جديد للمادة 62 قصر حق المواطن على الانتخابات فقط، بينما اصبح حق المستقلين في الترشيح مقيداً بحجة إعطاء فرص أقوى للأحزاب، وهو ما جربه النظام سابقاً في انتخابات 1984 و1987 وفشلت الأحزاب في اجتياز نسبة التصويت المطلوبة للتمثيل البرلماني، ولم ينجح laquo;الوفدraquo; أو laquo;العملraquo; إلا بالتحالف مع laquo;الإخوان المسلمينraquo;، وقد حكمت المحكمة الدستورية في حكمين سابقين تاريخيين بعدم دستورية حرمان المستقلين من الحق في الترشيح تفعيلا للحق في المواطنة الذي تقرره بالفعل المادة 40، وهو ما يمكن ان تحكم به مجدداً، ويعني ذلك الدوران في حلقة مفرغة وبطلان مجالس نيابية جديدة، كما حكم ببطلان تشكيل مجلس شعب عامي 1984 و1987، إذاً نحن أمام سيطرة حكومية كاملة على المجلس النيابي وحرمان المستقلين من الترشيح، وهم يمثلون اكثر من 95 في المئة من الشعب واكثر من 70 في المئة من اعضاء مجلس الشعب، قبل ان يستقطبهم الحزب الحاكم ويعيدهم الى حظيرته من جديد.

المخرج الأخير للمصريين كان من موقع رئيس الجمهورية، سواء بفتح باب الترشيح لأصحاب الكفاءات حتى يكون لدينا تنافس حقيقي في انتخابات رئاسية نزيهة وشفافة، او تحديد مدد الرئاسة بمدتين فقط كي يستطيع المصريون التغيير عبر آلية دستورية، اذا لم يكن لهم الحق في الاختيار أو لم يكن لهم الحق في الترشيح وكانت الانتخابات لا تخضع لإشراف قضائي حقيقي.

لم تكن هناك استجابة لتغيير المادة 77 وإعادتها الى النص الأصلي الذي يجعل مدة الرئاسة فترتين فقط، فلم تخضع للتعديل.

وجاء تعديل المادة 76 من جديد للمرة الثانية في أقل من سنتين، ليكرس استبعاد مصريين أكفاء عن الحق في الترشيح وفق ضوابط موضوعية، وليحل مشكلة ظهرت بسبب الشروط التعجيزية التي جاءت في التعديل السابق، وقصرت هذا الحق على قيادات الأحزاب التي لم تستطع في رأينا تلبية الحدود الدنيا المتواضعة للتمثيل البرلماني.

هذه هي حقيقة التعديلات الكارثية التي أدت الى إغلاق الأمل في اي انفتاح سياسي حقيقي، وذلك لسبب جوهري وهو غياب الإرادة السياسية للإصلاح والرغبة في تكريس الأوضاع القائمة على تحالف الاستبداد والفساد.

يبقى السؤال عن laquo;الإخوانraquo; ومستقبل نشاطهم السياسي.

يتصور النظام انه اغلق الطريق امام اي فرصة للإخوان ليس فقط لتشكيل حزب سياسي ولكن لممارسة اي نشاط سياسي.

وينسى اهل التعديلات ان النص على المواطنة في الدستور والقواعد فوق الدستورية ونص المادة الثانية وممارسات الحزب الحاكم وقوة المؤسسة الدينية، إسلامية او مسيحية، فضلاً عن ضرورة توازن القوى والتيارات في المجتمع التي تفرض نفسها: كل تلك العوامل ستجعل دور الإخوان مهماً وضرورياً لا يمكن شطبه او إلغاؤه.

التجربة التاريخية تقول: إن قوة الإخوان ليست في تنظيمهم او جماعتهم بل هي في فكرتهم ورسالتهم ومشروعهم النهضوي الحضاري الذي يسعى الى استقلال حقيقي وإبعاد للهيمنة الأجنبية وبناء علاقات دولية على اسس جديدة، وإنهاء حقبة الاستعمار التي مازالت تخيم على مصر والمنطقة. وليس أدل على صعوبة شطب laquo;الإخوانraquo; من تنامي دور الحركات الإسلامية التي تنتمي الى مدرسة laquo;الإخوانraquo; من المغرب الى اندونيسيا.

والخطير في الأمر ان محاولة شطب laquo;الإخوانraquo; من المعادلة السياسية قد تؤدي إلى نتيجتين في غاية الخطورة: الأولى بزوغ تيارات عنف جديدة تستند إلى مقولة ان لا أمل في العمل السلمي الإصلاحي القانوني المتدرج للوصول إلى أهداف إسلامية، والثانية هي انصراف مؤيدي laquo;الإخوانraquo; عنهم الى مآرب أخرى.

لكن الكتلة التصويتية للإخوان ستبقى، وهي ليست بالقليلة، ومعها كتلة اخرى من المؤيدين لديها رغبة في الاستمرار في العمل السياسي ولو كان ذلك عبر التصويت فقط. هؤلاء قادرون على التأثير شريطة وجود قدر معقول من نزاهة في الانتخابات. ويغيب عن ذهنية الذين طبخوا التعديلات في ليل ومرورها، ان المواطن المصري اذا فقد الأمل في حزب سياسي يمارس عبره نشاطه او في برلمان قوي يدافع عن مصالحه قد يلجأ الى وسائل اخطر للتعبير عن غضبه وإحباطه.