سليم نصار

مطلع السبعينات، رسمت الولايات المتحدة استراتيجية نفطية جديدة تقوم على حماية مضيق هرمز بواسطة قوة ايران العسكرية. ومع ان استهلاكها للطاقة المستوردة من الدول الخليجية في حينه، لم يتعد الخمسين في المئة، إلا أنها توقعت زيادة حاجتها من منطقة تؤمن ما نسبته تسعون في المئة من حاجة اليابان وسبعون في المئة من استهلاك دول السوق الاوروبية. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، شجعت الشاه على تشكيل قوة عسكرية قادرة على ضبط الحماية داخل منطقة حيوية تغذي العالم بالدم الاسود.

وسارع الشاه الى احتلال جزر طنب الصغرى والكبرى وابو موسى (تشرين الثاني - نوفمبر 1971) بغرض حماية الناقلات العملاقة التي تنقل الامدادات النفطية من آبار الخليج. وكان من الطبيعي ان تؤمن الشراكة الاستراتيجية المعقودة بين واشنطن وطهران، فرص دراسة التكنولوجيا النووية لعشرات الطلاب الايرانيين الذين التحقوا بجامعة laquo;ماساتشوستسraquo; (أم اي تي). وبفضل هذه الشراكة تم تأهيل الجيل الأول من العلماء الايرانيين المتخصصين في المجال النووي. وفي آذار (مارس) 1974 دشن الشاه محطة laquo;بوشهرraquo; التي مهدت الطريق لبناء عشرين محطة نووية في مناطق مختلفة من البلاد.

عقب سقوط نظام الشاه ونجاح ثورة الخميني، واجه العلماء الايرانيون مأزق الخيار الصعب بين البقاء في الولايات المتحدة أو العودة الى طهران من أجل خدمة النظام الجديد. وكان بين الخبراء الذين عقدوا العزم على العودة منصور حاج عظيم، نائب رئيس منظمة الطاقة الذرية الايرانية ومحمد ذاكر، مدير مفاعل الأبحاث في طهران. وفي مطلع الثمانينات، غداة اندلاع حرب الثماني سنوات مع العراق، شرع نظام الملالي في وضع استراتيجية نووية جديدة، متعاوناً مع الاتحاد السوفياتي وكوريا الشمالية. وبعد توقف الحرب، بادر مسؤولون في طهران الاتصال بقدامى الطلاب في laquo;ام اي تيraquo; لإقناعهم بالعودة. وذكر في حينه ان هناك أكثر من ثلاثين عالماً غادروا الولايات المتحدة والتحقوا بطاقم المحطات النووية في ايران.

وهكذا أجهضت ثورة الخميني استراتيجية تطويق الدول النفطية الخليجية بقوة نووية ايرانية صديقة للغرب، تُعاونها على الطرف الشمالي من المنطقة قوة اسرائيل النووية. وقد نتج عن هذا الإجهاض عقب اسقاط نظامي صدام حسين في العراق و laquo;طالبانraquo; في افغانستان، ان تحولت ايران الى مصدر إزعاج للولايات المتحدة وللقوى الغربية عموماً. كما تحول إلحاح قادتها لانتاج laquo;القنبلة النووية الشيعيةraquo; الى كابوس يؤرق إدارة بوش وحكومة ايهود اولمرت ويدفعهما الى التهديد المتواصل بضرب المنشآت النووية الايرانية.

تقول الصحف الأوروبية ان مرشد الثورة علي خامنئي نجح في تنفيس الاحتقان الدولي تجاه ايران، عندما منع الحرس الثوري من معاملة البحارة البريطانيين المختطفين كما عومل 52 ديبلوماسياً أميركياً سنة 1979. فقد عصبت عيونهم وظلوا محتجزين مدة 444 يوماً. والثابت ان أحمدي نجاد كان واحداً ممن نفذوا عملية الاحتجاز.

ورأى خامنئي ان افتعال أزمة خارجية مع الدول الغربية قبل الانتهاء من عملية التخصيب، قد يجر الى معركة عسكرية غير ضرورية. ويبدو ان قائد حرس الثورة يحيى رحيم صفوي هو الذي امر بخطف البحارة البريطانيين لاسباب تتعلق بتجميد أرصدة بنكية تبلغ عشرات الملايين. ويتهم صفوي واشنطن ولندن بفرض عقوبات انتقامية على اعتبار ان مثل هذه الاجراءات قد تدفع ايران الى التراجع عن نشاطها الذري. وبما ان الرئيس نجاد كان عضواً في هذه المجموعة ومتعاطفاً مع طروحاتها، فقد استغل صفوي تأييده المعنوي كي يضع بلاده على حافة الهاوية مع الغرب.

الزعيم الروحي علي خامنئي يرعى مواقف الرئيس نجاد الذي دعمه منذ البداية، ولكنه في الوقت ذاته يحرص على كبح اندفاعاته السياسية الجامحة. لذلك شكل منذ مدة مجموعة أطلق على مهمتها اسم laquo;مجموعة الأزماتraquo; بهدف منع الرئيس نجاد وقيادة حرس الثورة، من تعريض النظام لخطر التهور والارتجال. وعرف بين هذه المجموعة كل من: الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني والرئيس السابق محمد خاتمي ورجل الدين حسين علي منتظري. وفي مرحلة سابقة اضطر خامنئي الى تشجيع 150 نائباً في البرلمان على رفع عريضة تطالب بضرورة مثول الرئيس أمام المجلس للرد على اسئلة تتعلق برفع أسعار المواد الغذائية وتزايد الانفاق الحكومي. وكثيراً ما رفض احمدي نجاد الاهتمام بهذه الشكاوى لأنها في نظره مبالغات اعلامية.

منذ فترة قصيرة أصدر البنك المركزي الايراني ورقة نقدية جديدة تظهر عليها صورة المنشآت النووية من جهة وصورة آية الله الخميني من الجهة الأخرى. ورأت الدول الغربية في هذه الورقة النقدية إصراراً على جعل القنبلة النووية مشروعاً وطنياً يجب ان يتذكره الناس كل يوم مثلما يتذكرون المؤسس آية الله الخميني. لذلك يحاول مرشد النظام ان يحصر اهتمام جميع المسؤولين بقضية صنع السلاح النووي فقط. وهذا ما دفعه الى رسم خط أحمر أمام الرئيس نجاد وصديقه صفوي رئيس حرس الثورة، بعدما أثبتا ان بمقدورهما دفع عملية احتجاز البحارة البريطانيين، الى حافة الهاوية. علماً بأن الايرانيين يقيمون أوجه شبه بين تحدي أحمدي نجاد للإرادة الدولية الخارجية وتحدي رئيس الوزراء محمد مصدق الذي أمم النفط في خمسينات القرن الماضي.

إضافة إلى هذه المعطيات، فإن خامنئي يعير أزمتي العراق ولبنان اهتماماً خاصاً نظراً إلى ارتباطهما الوثيق بواقع إيران. وهو يحاول اغراق جورج بوش في المستنقع العراقي أكثر فأكثر بحيث يمنع الجمهوريين من الوصول إلى البيت الأبيض بعد سنة ونصف السنة تقريباً. ومثل هذا التكتيك استخدمه الخميني لمنع الرئيس جيمي كارتر من التجديد. وكان من نتيجة ذلك أن وصل من بعده رونالد ريغان الذي حاول الانفتاح على النظام بعد أن أهداه الخاطفون رهائن السفارة.

مطلع هذا الشهر جرى أول اتصال هاتفي منذ مدة طويلة بين فلاديمير بوتين وجورج بوش غداة مؤتمر الأمن الدولي في ميونيخ. وبدلاً من تبادل عبارات العتب، دخل الرئيسان في نقاش طويل يتعلق بالملف الإيراني. وأخبره أن موسكو استدعت خبراءها الذين يعملون في بناء محطة بوشهر النووية، متذرعة بأن طهران لم تسدد المستحقات المالية المتأخرة. ويفهم من كل هذا أن الولايات المتحدة وروسيا تتعاونان في قضايا محددة مثل قضية الشرق الأوسط ومشكلة كوريا الشمالية وقضية إيران... ولكنهما تتنافسان في الساحة السوفياتية سابقاً مثل أوكرانيا، من دون أن يؤدي ذلك الى مواجهات الحرب الباردة. والحق أن خطاب بوتين في ميونيخ لم يكن مؤشراً على اطلاق حرب باردة جديدة، بقدر ما كان تمهيداً لإعادة النظر في موقف موسكو حيال الملف النووي الإيراني.

الإدارة الأميركية واثقة من أن طهران خطت خطوات متقدمة في مشروعها السري لتخصيب اليورانيوم. وهذا يعني أن تجاهلها للقرارات الدولية سيوصلها آخر الأمر إلى امتلاك سلاح نووي. وأفضل دليل على ذلك أنها أكملت البنى التحتية لتجهيزات كاملة تتولى صناعة اليورانيوم العالي التخصيب.

تقول واشنطن إن امتلاك إيران للسلاح النووي سيؤدي إلى سباق تسلح ضخم في منطقة الشرق الأوسط يشمل مصر والسعودية وسورية والأردن ودول الخليج. وهي ترى أن طهران ماضية في دعم الاصوليين وتسليحهم في العراق بهدف احراج إدارة بوش ودفعها الى الانسحاب، لأنها قادرة على ملء الفراغ الأمني بالتعاون مع سورية. وهذا ما شجع قيادة القوات الأميركية والبريطانية في بغداد على الادعاء بأنها عثرت على كميات من الصواريخ نقلها المقاتلون من طهران ودمشق.

تجمع الصحف الروسية على الإعراب عن مخاوف بوتين من ضربة أميركية يحاول بوش من خلالها تعويم دوره الفاشل في العراق وإحراج الأسرة الدولية، وهو يرى أن أي هجوم أميركي ضد المنشآت النووية الإيرانية سيتسبب بنشر الفوضى في عدد من بلدان المنطقة - خصوصاً لبنان - شبيهة التي تدمر العراق. وربما يدفع الرئيس الباكستاني ثمناً لتحالفه مع الولايات المتحدة، في حال ثبت أن بن لادن و laquo;طالبانraquo; عقدا صلحاً سرياً مع حكومة مشرّف في وزيرستان، وان كل ما يحدث في المغرب والجزائر من عنف هو نتيجة اطمئنان أسامة بن لادن إلى وضعه الأمني المريح!