خيري منصور
بأية هتافات مبحوحة وأية مناديل مبللة بالدم والدمع يستقبل الفلسطينيون الرئيس بوش في زيارة باهظة في مظاهرها الأمنية، وكأنها تحدث على أرض معركة أمريكا هي طرف فيها، وموعد الزيارة سواء كانت وداعية أو لأسباب تتخطى المعلن عنها يأتي في ظرف إقليمي وعربي وفلسطيني بالغ الحرج، والرئيس الذي أخذ على عاتقه تحقيق الحلم الفلسطيني بالدولة القابلة للحياة لم يفعل حتى الآن ما من شأنه أن يجعل فكرة الدولة لا الدولة مسألة قابلة للحياة والترجمة من شعار إلى واقع.
أحوال الفلسطينيين في هذه اللحظة التي تشهد الزيارة لا تحتاج إلى توصيف لأن المشهد بكامل دمويته يغمر أوراق الصحف بكل اللغات ويرشح من شاشات تعيش منذ زمن على ما يأتي من هناك، قتل ومطاردة وتجويع، ومعابر تضيق حتى تصيب الناس بالاختناق لكن أحياناً تتسع بمساحة تابوت فقط.
قبل أيام عوقب الحجاج الفلسطينيون وكانوا يموتون ببطء وصمت، في الوقت الذي عاد فيه حجيج العالم الإسلامي كله إلى أوطانهم، والنبأ اليومي الذي يتشكل منه فطور الفلسطينيين هو استشهاد أحد عشر أو أكثر من مختلف أنحاء فلسطين الصغرى التي تنحصر حسب خرائط الغزو الحديثة في ضفة وقطاع، وها هي تواصل متوالية الانشطار والتصغير بحيث تصبح جسداً صغيراً برأسين كبيرين.
إن هذه الزيارة ذات بعد استعراضي لا يليق بخريف الرئاسة البوشية، لأن ما قدمه الرئيس حتى الآن للفلسطينيين هو من ضمن الحمولة الشاقة التي تثقل كواهلهم، فسلاحه ودولاراته وأوراق الفيتو التي يشهرها انحيازاً واسناداً للدولة العبرية كلها يتذكرها الفلسطينيون الذين يقضون شتاء قاسياً يضاف فيه صقيع الصمت والتواطؤ إلى برد الشتاء.
بأية شعارات وهتافات مبحوحة تستقبل نابلس الرئيس الذي صمت عن استباحتها قبل أسبوع من زيارته؟ وهل سيدق أبناء الحجاج الشهداء الذين ماتوا على المعابر وفي الطرق الموصدة الطبول لهذه الزيارة؟
إن التحليلات الأكثر رواجاً لزيارة لها هذا الكرنفال ومحاطة بهذا الاستعراض الأمني تذهب أحياناً إلى ما بعد المشهد الحي، وهي تشبه المثل العربي الذي يقول إن الشرطي سبق اللص، فأضاعه وراءه.
لقد كان مؤتمر أنابولس مكرساً من ألفه إلى يائه لأهداف أخرى غير فلسطين وعذاباتها ودولتها الموعودة، وتم تسويقه عربياً على حساب جملة من الوقائع، هي ذاتها التي تحجب الآن وراء مشهد الزيارة الامبراطورية.
والرئيس الذي غالباً ما دان حتى حلفاءه بأنهم يقولون ما لا يفعلون، يتورط هو نفسه بهذه الإدانة، فلم يفعل شيئاً مما قال، رغم أن أقواله ليست أقوال شاعر يحق له ما لا يحق لسواه.
إنها أقوال رئيس أقوى دولة في العالم لكنها لم تضف العدل إلى القوة، ولم تنصف ضعيفاً أو جريحاً في هذا الكوكب المنكوب.
زيارة بوش ليست زيارة السيدة العجوز في مسرحية ldquo;دورنماتrdquo; الشهيرة، لهذا عليه أن يتوقع ما لا يشتهي سماعه.
فالأصوات مبحوحة من فرط الاستغاثة والبكاء والمناديل مبللة بالدم والدمع ولا تقوى على التلويح.
التعليقات