عرفان نظام الدين
laquo;ليس كل من حمل السلاح يصلح لإدارة دولة والمقاومة وحدها لا تبني دولةraquo;!
هذه العبارة ليست لي، بل هي خاتمة بيان عقلاني حكيم أصدرته هيئة علماء المسلمين في العراق لدعوة الجماعات المسلحة الى توحيد جهودها والاستعداد لما بعد الانسحاب الأميركي وانتهاء عهد الاحتلال، وحددت فيه المبادئ التوجيهية التالية للمقاومين:
*إياكم والغرور ورفض قبول الآخر وتجاهل أحقية فئات واسعة من الشعب في المشاركة والحكم ورفض الاعتراف بدورها في سحق الاحتلال لأنها تشكل الغالبية.
* لا بد ان تضعوا في الاعتبار في اي مشروع سياسي خصوصيات المنطقة والوضع الدولي القائم وتصور ذلك على حقيقته وواقعه.
* المقاومة كثيراً ما تنجح في تحقيق النصر على أعدائها وتفشل في تحقيق أهدافها بعد الوصول الى سدة الحكم.
هذه النظرة الحكيمة والواقعية للأمور تفتح الباب أمام اصحاب الحل والربط، وجميع أطياف الحكم والمعارضة والسياسة والمقاومة وأصحاب الرأي والفكر ورجال الإعلام لأخذ الدروس والعبر والاتعاظ من تجارب الماضي المريرة التي شهدت الصراع المدمر بين منطق الثورة ومنطق الحكم في الحركات والانقلابات والثورات التي مرت على المنطقة خلال عقود قتالية حصدت معها الماضي والحاضر وأكلت الأخضر واليابس وأوصلتنا الى ما نحن فيه الآن.
هذه واحدة، والثانية تحمل العنوان التالي المثير للجدل: laquo;شعبية حركة حماس في تراجع مستمر جراء ما جرى ويجري في غزة، فالفلسطينيون يعتقدون ان الحسم العسكري الذي قامت به لم يكن ضرورياً. وقد فقدت حماس بعد الذي جرى نقاءها السياسي والايديولوجي (العقائدي) والديني، وبات الناس ينظرون اليها كحركة سياسية مثل أي حركة أخرى تستخدم السلاح ضد الشعب الفلسطينيraquo;.
هذا الجزم ليس من عندي ولا من اخترع بنات أفكاري، بل هو جزء من نتائج استطلاع للرأي العام الفلسطيني أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، وجاء فيه ان ثلاثة أرباع الفلسطينيين يعارضون الحسم العسكري في قطاع غزة وان شعبية laquo;حماسraquo; هبطت الى 31 في المئة.
ولم نكن في حاجة لهذا الاستطلاع لنرسم صورة قاتمة عن الأوضاع الفلسطينية وخيبات الأمل الفلسطينية والعربية بعد سيطرة laquo;حماسraquo; على قطاع غزة وممارسة مسلحيها ضد الرموز والقيادات والصحافيين واستخدامها أساليب لا تليق بعربي ولا بمسلم والتي تشبه الى حد بعيد أساليب الاحتلال في قمعه للانتفاضة وتصديه لجماهير الشعب الفلسطيني بغض النظر عن الشكاوى من ممارسات السلطة وفساد البعض وتهاون البعض الآخر وسلسلة الأخطاء والخطايا التي صبت جميعها في خانة مكاسب الغاصب الصهيوني ومنحته الوقت والفرصة لتنفيذ مآربه وتكريس الاحتلال واستغلال الذرائع التي قدمت له على طبق من فضة لتبرير رفضه للالتزام بالاتفاقات والمعاهدات ومبادرات السلام، وزاد الطين بلة، ما جرى أخيراً على معبر رفح واستهداف مصر، كأن المطلوب ان يغلق آخر متنفس للشعب الفلسطيني.
وكم من مرة حذرنا فيها laquo;حماسraquo; من الوقوع في فخ الحكم واغراءات التحكم بالسلطة والدخول في صراع على المكاسب والمناصب. فقد كانت هذه الحركة المجاهدة تمثل النموذج الناصع النقي للجهاد والمقاومة في وجه عدو ظالم لا يعرف الرحمة ولا يفهم إلا لغة القوة وتوازن الرعب، ولكن لا حياة لمن تنادي، فقد انتصر الجناح المتشدد الذي اعتقد ان ثمار الحكم قد أينعت وحان قطافها وان أوان الحسم قد حان. كما ظن من خلال النظرة الرومانسية الضيقة ان الشعب سيبتهج ويحتفل ويسير خلف الحركة بكل سرور ويطيع الأوامر ويلتزم بالقرارات ويخضع للهيمنة. كما توهم من خطط للحسم العسكري ان كل شيء سيتم بيسر وسهولة وان الحياة ستتحول الى أمن وأمان وسمن وعسل من دون ان يأخذ في الحسبان تعقيدات الأوضاع ووقائع الحصار ومكر الأعداء وقدرتهم على تفجير الأوضاع وقطع شرايين الحياة عن القطاع وأهله الصابرين المجاهدين المنكوبين بأعدائهم وقياداتهم وحركاتهم. وبكل أسف فإن laquo;الفاس قد وقع في الرأسraquo; وزاد laquo;الحسمraquo; أو laquo;الانقلابraquo; في تأزيم الأمور وشق الصف الفلسطيني واسهم في زيادة محنة الشعب الفلسطيني وتعميم حالات اليأس وخيبات الأمل والخوف من تعميق الشرخ وإشعال نار الفتنة والتمهيد لحرب أهلية طاحنة بين ابناء الشعب الواحد ورفاق السلاح وإخوة الدم والدين والمصير وافتعال مواجهة خاسرة مع مصر.
وكم كنا نتمنى ان تبقى laquo;حماسraquo; حركة رائدة في المقاومة الشريفة والصامدة، وفي توسيع مشاريعها الخيرية والانسانية والاجتماعية والصحية والتعليمية وان تبتعد عن إغراءات السلطة ومفاسدها وصغائر السياسة ودسائسها ومشاكل الحكم ومؤامراته، فالجهاد لا حدود له ولا نهاية، يبدأ من القلب واللسان ويصل الى اليد والسلاح والقوة. كما كنا نتمنى ان لا يعامل أعضاء حركة laquo;فتحraquo; والفصائل الأخرى وكأنهم أعداء ليقتلوا ويشردوا ويعتقلوا ويعذبوا وتنهب بيوتهم من دون النظر الى تاريخ نضالهم ومقاومتهم للاحتلال وقيادتهم للانتفاضات المباركة المتتالية في وجهه ونجاحهم في الحصول على اعتراف دولي بالشعب الفلسطيني وحقوقه وهويته الوطنية المشروعة، مع الاعتراف بجنوح البعض منهم وفساد البعض، وايضاً بأخطاء وقصور في مفاوضات السلام ونواقص وشوائب كثيرة في اتفاقات اوسلو. وكنا نتمنى لو ان قيادة laquo;حماسraquo; وقيادات laquo;فتحraquo; والفصائل الأخرى، التزمت باتفاق laquo;صلح مكةraquo; الذي أرسى قواعد ومبادئ للتعاون والتنسيق والمصالحة والحكم ومواجهة المحتل وتحقيق مصالح الشعب الفلسطيني الأبي والتخفيف من معاناته ورفع الظلم والجور والحرمان من على كاهله.
تمنينا وتمنينا وتمنينا، ولكن لا حياة لمن تنادي، فقد وقع المحظور وتعمق الشرخ ولم يبق لنا سوى أمل صغير ورجاء كبير بأن يستمع الأفرقاء الى صوت الحق ونداء الرحمن وصرخات الأيتام والثكالى وأنين الجرحى وحسرات أرواح الشهداء، ويعودوا الى جادة الصواب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ورأب الصدع وترميم الشروخ ولملمة الخلافات وتضميد الجراح وفتح صفحة جديدة من التآلف والتعاون والتضامن في وجه الأعداء. لا بد من الإتعاظ من دروس الماضي وآلام التجربة المريرة الاخيرة، فلا الكرسي يستحق هذا النزاع ولا السلطة تستأهل القفز للهيمنة عليها وهي على حال ترثى عليه ولا تسر عدواً ولا صديقاً في ظل الاحتلال والفقر والبطالة والحصار وغياب الاعتراف الفعلي بها.
المصالحة وحدها هي الحل، والمصارحة هي السبيل نحو جادة الصواب والحق، والتسامح هو خشبة الخلاص لـ laquo;فتحraquo; و laquo;حماسraquo; وللشعب الفلسطيني بأجنحته المشتتة في فلسطين عام 1948 ومناطق السلطة (الضفة وغزة) وفي ديار الشتات ومخيمات البؤس والهوان والظلم الذي لم تشهد له الانسانية مثيلاً.
وإذا كانت تجربة فلسطين قد وصلت الى ما وصلت اليه وبات واضحاً ما آلت اليه الأوضاع وما نجم عن انتقال laquo;حماسraquo; من حال المقاومة الى تجربة الحكم، فإننا لا نستطيع الحكم على المقاومة في العراق لأنها ما زالت في مراحلها الأولى ولم تصل الى laquo;نعيمraquo; الحكم أو laquo;جحيمهraquo;، ولكن الجواب يقرأ من عنوانه وبيان laquo;هيئة العلماءraquo; وضع النقاط على الحروف ورسم خريطة طريق لفصائل المقاومة ودق ناقوس الخطر، محذراً من خلافاتها وانشقاقاتها وصراعاتها واستعداداتها للقفز الى سدة الحكم بعد انتهاء الاحتلال لقطف الثمار وتكرار تجربة أخطاء وخطايا الآخرين في حال عدم التزامها بالواقعية وتحليها بالحكمة واعترافها بحق الغالبية في الحكم وعدم اتباع سياسات وأساليب العزل والإقصاء والهيمنة على مقدرات البلاد ورقاب العباد أسوة بما جرى ويجري في عالمنا العربي والاسلامي المنكوب بسلطاته ومعارضاته التي انتقلت من آفات التخوين والاتهام والتطهير الى أوبئة التكفير والقتل والتفجير.
والمخرج الواضح والجلي من هذه المعضلات يكمن في الاتعاظ من دروس الماضي وتجنب اتباع أساليب التفرد والهيمنة وفق مبادئ laquo;أنا أو لا أحدraquo; و laquo;أنا ومن بعدي الطوفانraquo;، و laquo;كل من ليس معي فهو عدوي... وضديraquo;، حتى لا تحتدم المواجهات وتعم المخاطر وينتشر الدمار ونصل الى الآتي الأعظم والأدهى.
فتجاربنا المريرة نجمت عن أسباب كثيرة على رأسها كيد الأعداء ومؤامراتهم ومطامع الآخرين، لكن بأدوات عربية واسلامية، عن جهل أو عن علم، إلا ان المعضلة الكبرى نجمت أولاً عن صراع منطق الثورة ومنطق الدولة ثم عن عقلية وعقيدة المقاومة وواقعية الحكم وممارسة السلطة، خصوصاً في ظل الحركات الاسلامية المتنامية بعد تواري الحركات القومية الثورية واليسارية.
وقد كتب الكثير عن تجارب الأخيرة ومآسيها وعن الأحوال التي أوصلتنا اليها، إلا أن المجال هنا لا يتسع في هذه العجالة إلا الى التطرق الى أمثلة الحركات الاسلامية، مقاومة وحزبية، وتجاربها عند التأرجح بين مرحلتين والانتقال من المقاومة الى السياسة... والسلطة.
* في السودان قامت laquo;ثورة الانقاذraquo; بغطاء اسلامي بحت أمنته laquo;الجبهة القومية الاسلاميةraquo; بقيادة الدكتور حسن الترابي، وكان منتظراً ان تسيطر على الحكم وتطبق الشريعة الاسلامية، ولكن الرياح لم تأت بما تشتهي سفنها فلا هي تمكنت من الحكم، بل طردت من laquo;جنتهraquo; المزعومة وسيق رموزها الى السجون، ولا هي طبقت الشريعة بعد ان سيطر العسكر على الحكم بقيادة الفريق عمر البشير الذي تخلى عن حلفائه وأبقى على ستار شفاف يدعي فيه laquo;اسلامية النظامraquo; والباقي معروف لما وصل اليه السودان وشعبه وسلطته وما شهده من حروب في دارفور والشرق وصولاً الى الجنوب المهدد بتجدد الحرب وتنشيط دعوات الانفصال.
* في ايران قامت الثورة وهي تحمل الصبغة الاسلامية، بقيادة الإمام الخميني، ولم يحسم حتى الآن الصراع بين منطق الثورة ومنطق الدولة بعد تجربة الرئيس السابق محمد خاتمي ومحاولاته المستميتة لتأمين سيادة القانون والتحول الى عقلية الدولة في الإدارة والحكم والحياة العامة، وبعد حروب وأزمات وحصار وأخطار ومشاكل طائفية وعرقية وسياسية لا يزال الصراع قائماً مع ظهور بوادر تحول يحاول الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني حيازته بعد وصوله الى مناصب حساسة وتأهبه للعودة الى الإمساك بزمام الأمور خلال سنتين.
* في لبنان، تعتبر تجربة laquo;حزب اللهraquo; مثالاً في تناقضات العمل المقاوم ومجابهة العدو والعمل السياسي والدخول في دهاليز السياسة المحلية وزواريب المناورات والدسائس التي يشتهر بها لبنان عبر التاريخ بسبب أوضاعه الداخلية وحساسياته الدينية والطائفية وتوازناته الداخلية والاقليمية والدولية وخلفيات الصراع مع العدو وأجواء الحرية التي ينعم بها والنظام الديموقراطي الأعرج الذي يسير عليه على رغم الحروب والأهوال والصراعات.
ولهذا كان على الحزب ان يختار laquo;إما البقاء في موقع المقاومة، بكل ما تحمله من نقاء وطهارة وقيم، أو الولوج في عالم السياسة بكل ما تحمله من وسائل واساليب ودسائس ودنسraquo;.
كل التجارب العربية والاسلامية والدولية أثبتت انه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، المزاوجة بين منطق الثورة ومنطق الدولة وبين وسائل المقاومة وضوابطها وبين أساليب الدولة وقيودها وقوانينها ودساتيرها وثوابتها وسيادتها.
الاستثناء الوحيد في هذه الأمثلة جاء من التجربة التركية بعد وصول حزب اسلامي فاعل الى السلطة بأساليب ديموقراطية، حيث تمكن بفضل اعتماده منطق الدولة ومماشاة قوانينها والالتزام بدستورها وتوازناتها المدنية والعسكرية من الوصول الى رئاسة الجمهورية بعد رئاسة الوزراء وحصد الغالبية في البرلمان، على رغم التحفظ على النتائج المرجوة وعلى المحصلة النهائية لأن الصراع لم ينته فصولاً بعد والجيش لم يتخل عن عدائه للاسلاميين وتبنيه العلمانية القاسية، بل هو يعد العدة للانقضاض على الحكم، ووضع حد لهذه التجربة الاسلامية الفريدة التي نتمنى ان تنجح وتكون مثالاً يحتذى به.
وبانتظار ذلك، ما زال الجدل قائماً حول مصير الصراع بين منطق الثورة ومنطق الدولة وبين منطق المقاومة ومنطق الحكم... والدولة معاً.
التعليقات