سعد محيو

يحق للكوسوفار الاحتفال. فهذا عيدهم - الحلم ليس فقط منذ أن ارتكب الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش خطيئة إلغاء حكمهم الذاتي ووضعهم تحت الحكم العسكري المباشر العام ،1990 بل أيضاً منذ سنة 1389 حين انتصر العثمانيون على الصرب في معركة كوسوفو ومنحوا سكانها الألبان المسلمين حقوقاً وامتيازات واسعة.

يحق للكوسوفار أيضاً الشعور بالطمأنينة. فأمريكا، القوة العظمى الوحيدة في العالم، تدعمهم بكل قوتها. وحلف الأطلسي، بعدته وعديده جاهز في كل حين (كما فعل العام 1999 حين قصف صربيا لمدة 87 يوماً) لمعاقبة أي محاولة من الصرب لاستعادة ما يعتبرونه ldquo;المعقل التاريخي لوطنهم القوميrdquo;.

لكن وبعد ان يسدل الستار على كرنفال النصر في كوسوفو، ستبقى الأسئلة الكبرى التي اطلقها انفجار أزمة الإقليم في ثمانينات القرن العشرين، وجَرّ معه لاحقاً انفجار دولة يوغوسلافيا الفيدرالية نفسها، هي هي: أسئلة كبرى. وهذه يمكن تكثيفها باثنين أحدهما تاريخي والآخر مستقبلي:

السؤال التاريخي: لماذا قرر الغرب، بشطوره الأمريكية والأوروبية والأطلسية، تفكيك اتحاد ldquo;السلافيين الجنوبيينrdquo; (وهذا معنى اسم يوغوسلافيا) إلى دويلات كرواتيا وسلوفينيا والبوسنة وصربيا والجبل الأسود، والآن كوسوفو، بكل ما تضمنه ذلك من حروب تنظيف عرقي وحشي ذهب ضحيتها نحو 300 ألف شخص وملايين عدة من المقتلعين من أرض عاشوا فيها لقرون عدة (في ظل الدولة العثمانية الإسلامية)؟

والسؤال المستقبلي: وماذا الآن بعد ان تم استكمال فكفكة يوغوسلافيا؟ هل في الأفق مشاريع حروب عرقية - إثنية جديدة ينوي هذا الغرب نفسه تنفيذها في اوروبا، على إيقاع تلك التي يطلقها الآن في ldquo;الشرق الاوسط الكبيرrdquo;؟

دوافع واشنطن لتدمير الدولة السلافية التعددية تبدو وفيرة:1- استكمال حصار روسيا الأورثوذكسية عبر تدمير شقيقتها اليوغوسلافية. 2- الحفاظ على حلف الأطلسي كقوة عسكرية بعد زوال الخطر السوفييتي عبر منحه ادواراً جديدة. 3- الإطاحة بالميثاق التاريخي للأمم المتحدة القائم على صون سيادة واستقلال ووحدة أراضي كل الدول. 4- نسف كل ركائز ldquo;الاشتراكية التعاونيةrdquo; اليوغوسلافية التي طوَّرها أحد قادة عدم الانحياز جوزي بروز تيتو. 5- واخيراً، إذلال الاتحاد الاوروبي عبر إظهاره كعملاق اقتصادي برجلي قزم عسكري.

قد يعترض البعض هنا بالقول ان مثل هذا التحليل، يغفل مسؤولية التوترات اليوغوسلافية القومية - الإثنية والطبقية - الاقتصادية في وقوع هذه المجزرة التاريخية المروعة. بيد أن هذا الاعتراض، على صحته، لم يكن لتكون له قائمة لو ان الغرب سمح للدولة المركزية اليوغوسلافية بالدفاع عن وجودها، كما فعل طيلة نصف قرن حين دعم تيتو في وجه ستالين. لكنه قام بالعكس تماماً. لماذا؟ لأن يوغوسلافيا، كما قال آخر سفير أمريكي فيها، ldquo;لم تعد تتمتع بالنسبة للولايات المتحدة بالأهمية الجيو-سياسية التي كانت لها إبان الحرب الباردةrdquo;.

السؤال المستقبلي سيبدو غير عصي على الإجابة في ضوء السؤال التاريخي: نعم. استقلال كوسوفو سيطلق على الأرجح موجة جديدة من ldquo;الاستقلالاتrdquo; والحروب الإثنية في مناطق شاسعة من اوروبا. فالأبخاز والاوستيون الجنوبيون سيتحَركون في جورجيا. والكاتالينيون والباسكيون سينتفضون مجدداً في إسبانيا. والأتراك سيثورون في قبرص.. الخ. لكن الاهم سيكون ما سيحدث في روسيا التي يمكن ان يكون تفكيكها، بعد النجاح في تفكيك إمبراطوريتها السوفييتية، أهم الأهداف الحقيقية لكل عمليات ldquo;الفك والتركيبrdquo; التي تجري الآن على قدم وساق، وستجري غداً، في أوروبا.

* * *

أجل. يحق للكوسوفار الاحتفال. لكن، وراء شجرة فرحهم القومي المشروع، تختفي غابة كاملة من مشاريع التقسيم والتفتيت الدموية الغربية، التي بدأت منذ أواخر القرن العشرين ولا يتوقع لها أن تنتهي لا في اوائل القرن الحادي والعشرين، ولا حتى في منتصفه.

إنها الخرائط الجديدة للنظام العالمي الجديد!