محمد خليفة

مؤلم ما يجري للعراق، يحترق في كيانه وقيمه وثوابته، وما يؤلم أكثر، مصير إنسانه الذي يعيش في ظل حرب طاحنة. الفراغ في كل شيء، ينشر الهواء الملوّث العابق بروائح الموت، وبشاعة الدم، وأجراس الوحشة الباردة. ويحلّ الخريف قبل موعده على أعشاش الصراصير والعقارب، وروح الجمر على رقصة الموت، حتى تحوّل هذا الوطن إلى حرائق وجثث ومقابر جماعية. ومخطئ من يظن أن الحرب الأمريكية على العراق كانت نتيجة مباشرة لاعتداءات 11 سبتمبر/أيلول ،2001 على الرغم من أن هذه الاعتداءات وفّرت الذريعة القوية للإدارة الأمريكية للدخول في تلك الحرب.

جذور العدوان على العراق تعود إلى اللحظة التي دخل فيها الجيش العراقي إلى الكويت في أغسطس/آب عام 1990. فقد تنبّهت الولايات المتحدة إلى خطورة وجود قوة كبيرة مثل العراق على مشارف منطقة الخليج الغنية بالنفط والمهمة للاقتصاد العالمي الذي يشكّل الاقتصاد الأمريكي أساسه. ولذلك تم تركيز الاستراتيجية الأمريكية على تضخيم ما يسمى الخطر العراقي ليس على منطقة الخليج والشرق الأوسط فحسب، بل على العالم الغربي والعالم أجمع من خلال اختلاق الأكاذيب الهائلة من قِبل آلة الدعاية الأمريكية والغربية التي لا تتوقف. ومضى عقد التسعينات على هذا المنوال من الشحن الدعائي والتهديد. لكن التأخير في شنّ الحرب والقضاء على النظام في العراق لم يكن في مصلحة الولايات المتحدة، لأنه كان يعني تراخي قبضتها في هذه المنطقة، وبالتالي تشجيع العراق على الاستمرار في تحديه لهيمنتها. وهذا الوضع اقتضى من الولايات المتحدة المباشرة في التنفيذ، فجاءت أحداث سبتمبر التي أعقبها على الفور، غزو أمريكا وحلفائها الأطلسيين لأفغانستان. وكان هذا الغزو تمريناً للحرب الكبرى في العراق، لأن الولايات المتحدة لم تستخدم فيه سوى جزء ضئيل من قوتها العسكرية، واعتمدت على حلفائها في مدّها بالجنود لتحقيق السيطرة على تلك البقاع. وكانت في هذه الأثناء، تتسارع الخطط داخل وزارة الدفاع الأمريكية لغزو العراق. وفي خطابه عما يسمى ldquo;حالة الاتحادrdquo; في الولايات المتحدة في يناير/كانون الثاني عام ،2002 وضع الرئيس الأمريكي جورج بوش ثلاث دول هي (العراق، وإيران، وكوريا الشمالية) على قائمة ما أسماه ldquo;محور الشرّrdquo; وهذا التعبير يعني أن الولايات المتحدة أعلنت الحرب العسكرية على هذه الدول وهي تنتظر الفرصة المناسبة للتنفيذ.

في الواقع كان إقحام اسم كوريا الشمالية للتمويه على أن الولايات المتحدة لا تستهدف العرب والمسلمين وحدهم، لكن الحقيقة هي أن الخطط العسكرية الأمريكية كانت منصبّة فقط على تدمير العراق. ومع أن إيران كانت ولا تزال تمثّل هي الأخرى مشكلة كبرى للهيمنة الأمريكية في المنطقة، فإن الولايات المتحدة فضّلت استهداف بغداد على استهداف طهران، لأن العراق ينتسب إلى أمة العرب، وهناك صلات ووشائج قربى تجمع بين العراقيين وغيرهم من الشعوب العربية في منطقة الخليج وباقي العالم العربي. كما أن العراق كان يرفع شعار ldquo;الوحدة العربيةrdquo; وكان يسعى إلى تحقيقها بالقوة، وهو يملك حدوداً برية مباشرة مع منطقة الخليج. أما إيران فهي تشكّل أمة مختلفة، ولا توجد حدود برية مباشرة بينها وبين دول الخليج. ولهذا، فإن خطرها، من وجهة النظر الأمريكية، أقل من الخطر الذي كان يشكّله العراق.

رجحت كفة العراق، وبدأ العدوان عليه في مارس/آذار عام ،2003 ودُمر النظام العراقي والدولة العراقية، وأعقب ذلك وقوع الولايات المتحدة في وحل المستنقع العراقي، وانعكس ذلك على اقتصادها، لأن تكلفة الحرب كانت باهظة إذ بلغت خلال خمس سنوات من بدء الغزو، ثلاثة آلاف مليار دولار، وهذا الرقم مرشّح للزيادة مع كل يوم جديد يستمر فيه احتلال العراق. ولأن الخسائر في الحروب لا تعوّض، فإن الاقتصاد الأمريكي بدأ بالتدهور، وقد كان هذا الاقتصاد يعاني في الأساس من حالة ضعف مزمنة تعود إلى حرب فيتنام 1965 1975 التي كلّفت الولايات المتحدة خسائر كبيرة عجزت عن تعويضها إلا من خلال فكّ الارتباط بين الدولار والذهب الذي جرى العمل به وفق معاهدة ldquo;بريتون وودزrdquo; عام ،1944 حيث تم ربط الدولار الأمريكي بالذهب على أساس 35 دولاراً لكل أوقية ذهب واحدة. وتم ربط جميع العملات الأخرى بالدولار وفق نظام ثابت بناء على ذلك. وقد قام الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عام ،1971 بالتخلي عن هذه المعاهدة من أجل تفادي الانهيار الاقتصادي، وأصبح الدولار بلا أساس ذهبي، وبدأت الولايات المتحدة في طبع العملة الورقية بلا حسيب ولا رقيب معتمدة في ذلك على قوتها العسكرية في فرض الأمر الواقع. لكن بعد انغماسها في وحل العراق، وظهور أقطاب عالمية جديدة مثل روسيا والصين، وظهور إيران كقوة إقليمية، انكشف العيب الأمريكي، وفجأة بدأ الدولار يتراجع في الأسواق العالمية، وأصبحت أيامه معدودة. وبانهيار إمبراطورية الدولار ستنهار القوة العظمى الأمريكية. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو، إلى متى ستستمر دول مجلس التعاون في ربط عملاتها بالدولار؟ ألم يحن الوقت لتفك هذه الدول هذا الارتباط؟ لا شك في أن استمرار الارتباط بالدولار يعني استمرار تدهور الاقتصاد في هذه الدول لأسباب لا علاقة لها بها. وهذا الأمر سينعكس على السكان الذين سيجدون أنفسهم في لحظة ما قد فقدوا كل أموالهم بسبب تحوّل الدولار إلى عملة لا قيمة لها.