محمود حيدر

يمكث لبنان الآن في اللحظة الأكثر احتداماً وتعقيداً مما كان عليه خلال الأزمنة المتعاقبة من حروبه وتسوياته. فهذا شأنه في فراغ لا يقتصر حاله اليوم على تقنيات عمل السلطة والمؤسسات، بل هو يمسُّ الدولة والوطن بأحيازهما المختلفة. لذا يبدو الكلام على التسوية هو أدنى إلى استعادة شاملة لفلسفة الكيان اللبناني بمجمله.

والواقع أنه كلما حلّ على اللبنانيين سؤال التسوية الداخلية، استأنفوا جدلاً عظُمَ شأنه واتسع مداه، حول صيغة الجمع في ما بينهم.. وفي كل مرة كانوا ينعطفون فيها نحو ذلك السؤال، كان ميشال شيحا يملأ مساحة بيّنة في ثقافتنا السياسية، حتى ليكاد ذلك الفيلسوف المستعاد يؤلف بين أطياف لبنانية خالف بعضها بعضاً، وكان لها أن تعود لتأتلف على laquo;فضيلة التقليدraquo;.

اللحظة اللبنانية الجارية، وإن اكتست بطبقات الغموض الكثيف، لم تخلُ من النقاش على ldquo;الشيحويةrsquo;rsquo; وكلماتها وتوجيهاتها. فلقد بدا واقع الحال كما لو ان ldquo;التسوية التاريخيةrsquo;rsquo; المأمولة، لن تحيد عن تلك الكلمات والتوجيهات.

ماذا في فلسفة ميشال شيحا اللبنانية؟..

لقد نظّر شيحا للبنان، فَرَفَعَهُ إلى مقامين يبدوان متفارقين في شدة: أولهما مقام الأسطورة، حتى ليظنّ القارئ أنه بإزاء بيت مشيّد بالشعر، أو حيال مكان جيو- ميتافيزيقي، لا يشبه أمكنة الدنيا، ولا تشبهه هي في شيء.

وثانيهما مقام الواقع، حتى يكاد المرء يحسب الرجل سياسياً من طراز ماكيافيلي أو هوبز، أو ابن المقفّع، لكن على الطريقة اللبنانية المركنتيلية التي عوَّدنا عليها سياسيو اللعبة. منذ الاستقلال فإلى ما بعد الطائف. في كل حال ظل أمامنا السؤال التالي: كيف لهذا التفارق أن يجمعه جامع، لولا أننا أمام فقيه سياسي إشكالي دخل اللعبة من غير استئذان، فأبدع لها laquo;سيستاماًraquo; (نظاماً) استظلَّت به فهنأت، ثم لم تلبث حتى ضلّت بسببه، فكان لنا من الضلال الحصاد الأليم. إن هذا المفكر المسيحي الكلداني الذي جاءت عائلته من العراق، سيكون سكرتير اللجنة التي وضعت مسوَّدة الدستور اللبناني عام 6 2 9 1. وكان من أبرز المخطِّطين الرئيسيين للبنية السياسية، والاقتصادية اللبنانية بعد الاستقلال. فهل كان بهذا يفارق laquo;الميتافيزيقاraquo; ليدخل إلى ثنايا المكان الذي حلّ فيه ليضع بين يديه ناصية أمره؟

غالب الظن أن لا... فلبنان بالنسبة اليه ldquo;بلد الحلم والواقع معاًrsquo;rsquo;. كأنما تريد فلسفته أن تقيم لمدينته الفاضلة سياجاً من عقل يحميها من مواتٍ أكيد. ولذا راح يبيّن منذ العام 1942ان الديمقراطية هي الصيغة الوحيدة التي تلائم لبنان، ويقول: ldquo;لا بد من مجلس يكون مركز التقاء وتوحيد للطوائف في سبيل تحقيق إشراف مشترك على الحياة السياسية في الأمة. فحين يُلغى المجلس، يُنقل الجدل حتماً إلى المحراب (من حرب) أو إلى ظلّه، فتتأخر بالتالي مسيرة التنشئة المدنيّة.. فـ ldquo;لا يناسب لبنان ركوب الرأس ولا مركب الانقلابات.. وبذلك سيكون عليه أن يتجنب الطغيان، وسيطرة البعض على البعض الآخر، وبالتالي كل أنواع الاضطرابات.rsquo;rsquo;

إن laquo;العقل التسوويraquo; الذي دعا شيحا اللبنانيين إليه، والاعتصام فيه من كواره الزمن، هو المنجز الفلسفي - السياسي الذي سيؤلف بينهم، ويدبّر لهم أمر اجتماعهم وتوحّدهم. وبعد هذا فهو (المنجز) الذي يصون الإلفة من الفِرْقة، والتوحُّد من الانشطار والتشظِّي. وهو المنجز الفلسفي - السياسي نفسه، الذي آل إلى أن يكون دستوراً في العام 1926، وميثاقاً وطنياً حُمِلَ عليه الاستقلال عام 1943 وثمة من يمضي ليصل إلى اتفاق الطائف ليقول إن هذا الاتفاق قد انتزع من laquo;الشيحويةraquo; عصارة الفؤاد.

بلدٌ مركَّبٌ على الكثرة

لقد رسمت laquo;الشيحويةraquo; ماهية بلد عجيب تركَّب على الكثرة والتعدّد، بعدما صارت هذه الثنائية السياسية تقليداً، وصار التقليد سلطة معزّزة بالقانون. إنها سلطة laquo;الكَثرة المركبةraquo; نفسها التي افترض شيحا أنها تستطيع أن تؤمِّن للبلد أمنه وثباته، فتعصمه من التذرر والإنفراط. كان ميشال شيحا مؤمناً بأن لبنان laquo;بلد يجب أن يدفع التقليد عنه شرَّ العنفraquo;. كما أنه وعى مبكراً فرضية التناقض بين الطوائف، فأراد أن يؤسس لمنطق ينزع من الاجتماع السياسي العتيد عوامل انفجاره. إنه المنطق نفسه الذي راح يستولد من قضية مهزوزة، نتيجة مستقرة. أنجح في ذلك أم لا؟ فهذا سؤال تبدو الإجابة عنه غير مفارقة لتاريخ طويل من القضايا الخلافية بين اللبنانيين. فلا يزال إلى يومنا يوجد ما يشبه حرباً فكرية باردة بين اجتهادين متفارقين، وهما غالباً ما يبتعثان على الضجر:

الأول: ان لبنان بلد استثنائي كرّمته السماء، فعرضت عليه طوائفه، فكان بها وجوداً أصيلاً، فصارت الطوائف والمذاهب علّتهُ الفضلى. بها يقوم ويترقى ويدوم وطناً لأهله المختلفين المتَّحدِيِن على عشق لا يزول.

والثاني: ان لبنان قد لَعَنَتْهُ الحتميات التاريخية، فخلعت طوائفه عليه لونها المخصوص، وراحت تنزع منذ أول التقاء في ما بينها على أرض السياسة، إلى قطع الوصال بما بينها وإقامة الحد، أو العيش آمنة داخل أحيائها المغلقة. فإن لبنان هذا على رأي أهل الاجتهاد هذا، ليس غير ماهية مخصوصة بالفقر، أي أنه بلد لا منعة له بإزاء الاضطراب، فهو مقيم على قلق طوائفه، إما لعلة في ذات كل واحدة منها، كما لو ان شعوراً يسكنها بأنها مغدورة من أخواتها اللاّتي يشاركنها باب الدولة العالي.. وإما بسبب من لعبة انتهاب متبادل في ما بين الأخوات المتشاركات كلهن، أفضت إلى ثنائية الخوف والغبن.. فلقد ترتَّب على هذه الثنائية من آثار الشّؤم ما لا يطيقه العقل الطبع. وكان الحاصل جراء هذين (العلة والسبب) أن تعرّض البلد لانفجارات دورية مدوية.

ومع أن كلاًّ من الاجتهادين المنقضيَيْن قد هبطا الآن إلى ما تحت الحد الذي يسمى اتفاق الطائف، فهما لا يزالان على النشأة نفسها. يستنظران الوقت ربما لكي تبترد المقولة الأمنية، فلا يعود ثمة سبب يُبقي سياق المماحكات مخفياً وراء حجاب.

لم يُقصد الكلام على ldquo;الشيحويةrdquo; المأمولة إخباراً عاجلاً عن عودة خطابها الأيديولوجي. ربما أريد بذلك إجراء استقراء منطقي لـlaquo;السَّيْريةraquo; التي جرى عليها تركيب الدولة والمجتمع السياسي الاقتصادي بعد الحرب. وهذا هو المرجح، ما دام الزمن السياسي اللبناني الجديد قد أخذ على نفسه مفارقة الحرب، بما هي انقلاب دموي على الصيغة، وذلك من خلال العودة إلى الصيغة عينها.

كانت العودة إلى الصيغة حادة وحارة وشغوفة وملتبسة في آن.. فإذا بالهيئة السياسية صاحبة الأمر، تأتي إلى الصيغة بروح ظافرة منتصرة، كما لو كانت معها على قدَرٍ. وهي في أغلب شخوصها ldquo;وزعمائهاrsquo;rsquo; من أولئك الذين رفعوا شعار إسقاطها كخلاص نهائي للبنان وأهله وبناء دولته الحديثة.

لوحة إيديولوجية

ولقد تحقق للصيغة عودتها مع استعادة اتفاق الطائف وحفظه عن ظهر قلب. وبدت الصورة اللبنانية كمثل لوحة أيديولوجية لا يُقصد بها سوى التبرير، أو دفع الحجة بالحجة، أو إضفاء المشروعية السياسية على الداخلين في اللعبة اللبنانية المتجددة. وهكذا بدا كأن الأمر عودٌ على بدء، وسيكون للبنانيين من أمرهم حكمة: فالدولة في زمن ما بعد الانقلاب على التقليد، قُيّض لها دور ينبغي ألا تكون سواه: محطة لاستقبال ممثّلي الطوائف ثم احتوائهم بحسن نية، لا قهر فيه ولا إكراه. وما شاع من إكراه في الأيام الأولى لما بعد الطائف في العام 1989 أي بعد صمت الرصاص الأهلي، إن هو إلا تعبير عن الدخول الصعب في رحلة التكيّف. والذي حصل في ldquo;أحيازrsquo;rsquo; السلم الداخلي، كلها، لم يفارق أهواء الداخلين في رحلة التكيّف، ولا هو جاء عكس ما يشتهون. لقد أخذت laquo;الدولة الجديدةraquo; التي تولى أمرُها المحاربون تفتح أذرعها ldquo;لحداثوييrdquo;الطوائف، في الاقتصاد، والمال، والسياسة، والثقافة، لتصير مستوعبهم بعد قليل، ثم لتصير القميص الذي يلبسونه بشغف ومسرّة.. ثم لتمضي الأفكار والأحلام والآمال لتصاغ وتُستكتب بلغة الماضي السعيد، وعلى نحو ما نشأ عليه البلد أول مرة.

لكن لا شيء تبدّل في ماهيّة السلطة الطوائفية التي حفظت الكيان، ثم كانت سبباً في تقويضه غير مرة. ومع ذلك ففي الأسئلة المحتجبة اليوم أو في تلك التي تتهيأ للظهور، عودة إلى الكلام على laquo;الشيحويةraquo; من دون استئذان. كما لو أن المنطق اللبناني الشائع يفترض المماهاة مجدداً بين فلسفة القيامة اللبنانية المفترضة، ورؤى ميشال شيحا.

بعد الحرب بانَ لنا المشهد على أتمّه، حيث ذهبت النخب إلى استعادة هذه الرؤى لبناء دور ووظيفة للبنان جديدة. وكل هذا ضمن توليف مزعوم من العقلانية الصارمة بين الأيديولوجيا الطوائفية والمال.

لقد ابتعثت أزمنة الحرب وما بعدها حنيناً للتقليد، ثم لم يلبث هذا الحنين السياسي ليتحول شيئاً فشيئاً إلى قوة تدفع ببلد مثقل بالأتعاب إلى فضاء ldquo;النيوليبراليةrsquo;rsquo; اللاّمتناهي. مثلما راحت هذه النيوليبرالية تنشئ الدولة وأحكامها على السيرة الأولى متماهية مع laquo;العولمةraquo;، وفاتحة باب التفاؤل على القرن المقبل. كان ميشال شيحا يعتز ويطمئن إلى كونه أبدع للبنان نظرية لاستقراره وازدهاره، هي نظرية الاعتصام بالتقليد اجتناباً للعنف والحروب الأهلية. وساد ما يشبه الاعتقاد بأن طوائفية هذا البلد هي علّة وجوده، ولا صلاح إلا بها وعليها ومن خلالها. كأن ثمة من ينبِّهُنا على الدوام، أن كونوا على حذر من عنف واحتراب ولو بعد حين، إن أنتم مَسَسْتُم التقليد أو ألحَقْتُم بقواعده وثوابته الضرر.

laquo;بيت بمنازل كثيرةraquo;

يتساءل كمال الصليبي في ختام الفصل التاسع من كتابه laquo;بيت بمنازل كثيرةraquo;، وهو على كل شيء من عدم اليقين، عن فرص النجاح التي كانت متوافرة أمام رعاية عقلانية للتقليد في مجتمع لا يلتزم فيه الجميع في الدرجة نفسها بالعقلانية، وفي وقت أعطيت فيه حتى للعقلانية تفسيرات سياسية مختلفة.

لعل شيحا كان مهموماً بالفعل بمثل هذا التساؤل، إلا أن قدرَهُ لم يسعفه ليظهر له الحصاد المرير، فها هو العنف ينفجر آخر الأمر ويطيح بالتقاليد التي كان لها وحدها في رأيه، أن تحافظ على المثالية الفينيقية المتصوَّرة.

لكن الصليبي يعود ليمنح شيحا حقه في ldquo;أنه كان على حقrdquo; - ولو لوقت معلوم - حين رأى أن احتمال العنف الكامن في لبنان لا يمكن احتواؤه إلا بالرأي السياسي الصائب. ولسنا ندري إن كان من فتَّح باب الخروج من الحروب قبل نحو ثمانية عشر عاماً في الطائف قد استمسك بالرأي الصائب. غير أننا كنا لبرهة ما على يقين، أن من أدخلنا في نعمة مغادرة الحرب. ما فارق التقليد laquo;الشيحويraquo; في شيء، وما مسّه هذا التقليد بسوء.

هل نقول إن فكرة ميشال شيحا قد تعود بعد أكثر من نصف قرن لبنانيّ من الحروب الباردة والساخنة؟ لا ريب في انه يعود بفكرته اليوم على صهوة التقليد الذي رفعته الطوائف إلى رتبة مقدّسة، غير أن السؤال يبقى على أحواله الماضية مع جرعة زائدة من التعقيد، حول ما إذا كانت الشيحوية وفلسفتها ودعواها إلى التقليد لا تنفك تنعقد على فضيلة التسوية التاريخية.

يبدو الحادث السياسي اللبناني المتمادي منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري أنه لا يغادر مثل هذا السؤال. لا بل هو يقيمه على حدّه الأقصى. الطوائف السياسية بأجمعها لا تتحدث إلاّ بلغة laquo;خطوط التماسraquo; الصادرة أصلاً من ذاكرة مغلولة بخطوط النار المشؤومة. ممثلو الطوائف بأجمعهم أدركوا ما تنطوي عليه بغضاء الكلمات. كان لأعقلهم أن يدعو إلى ما دعا إليه، ولو على نحو ما تستظهره بداهة الحس السياسي اللبناني العام. إلى حوار يُخرج الصورة اللبنانية من أحيائها المغلقة. ويعيد إلى من أخذتهم خرافة الغلبة والأكثروية، عقلانية التسوية. تلك العقلانية التي من دونها سيعود العنف ليملأ الشوارع كلها، فلا يعود لشارع العقل سلطان الرأي.. وسيكون لنا فيما بعد ميقات آخر للكلام على سلام أهلي مستأنف يستمد من التقليد laquo;الشيحويraquo; أعلى درجاته...

ففي وضع تبدو فيه الحرب والتسوية ممنوعتين من الصرف، لا يبقى للبنانيين سوى الانتظار، وهُم في هَلَع مقيم...