مبارك الذروه

يظن البعض أن الليبرالية هي العلمانية وهذا بعيد عن الدقة العلمية فالليبرالية تعني التعددية، والحريات، واحترام الأديان، وفتح باب الحوار، وغير ذلك، بخلاف العلمانية التي تواجه الدين وتجعل منه سبباً للتخلف والرجعية.
فالعلمانية نشأت في أصلها المستورد من الصراع الدائر بين العلم والدين في الغرب المسيحي منذ خمسة قرون أو أكثر، وبالتحديد بسبب تعنت ومحاربة ومصادرة رجال الدين للعلم والإبداع، والسيطرة على مقدرات العلوم والتجريب آنذاك.
لقد كانت العلاقة بين رجال الدين الكهنوتي الكنسي يومئذ هناك وبين المكتشفات ونظرات العقل هي السبب في هذا الانفصال والفرقة. انفصال الدين عن مفهوم الحياة... حياة العلم والعقل والتجريب.
فنشأ صراع مرير بين الكتلتين قتل بسببه خلق كثير من المفكرين والمبدعين والعلماء، أمثال جاليليو مخترع التلسكوب الذي آمن بوجود المجموعة الشمسية فيما بعد، ثم إثبات دوران الأرض حول الشمس على نحو علمي ما أدى إلى سجنه مؤبداً، ولولا مرضه ما خرج ولم يرد اعتباره إلا في التسعينات من القرن الماضي. كما ظهرت خلال تلك الفترة فتاوى رجال الدين المسيحي ضد نظريات كوبرنكس وكروية الأرض وهو ما يعد آنذاك معارضة للبحث العلمي والتجريب. ولم يقف هذا التطرف من رجال الدين إلا بعد ثورة رجال الفكر والتجريب والصناعة.
وكما هو معروف فإن الرحلات والوفود العلمية والبعثات التي انتقلت إلى فرنسا وبريطانيا وغيرها في زمن محمد علي باشا في مصر تأثرت بما يسمى laquo;رواد النهضة الأوروبية الحديثةraquo; وحملتهم ضد الدين، لقد كان تأثر طلبة الوفود واضحاً عند عودتهم إلى الشرق فتبنوا فكرة محاربة الدين أسوة بأساتذتهم في الغرب، فالدين كما تعلموا سبب التخلف والرجعية.
لكن الغرب كان على حق في مهاجمة الممارسات الدينية والتي لا وجود لها في الدين الإسلامي، وهنا منشأ اللبس والخرافة (والامعية والتقليد الأعمى).
نحن نعلم أن الإسلام يشجع العلم والقراءة والإبداع والتجريب، إذاً لماذا نبتت هذه النبتة في ديار الإسلام، ولمصلحة من هذا الفراق والخصومة بين الدين والعلم من جهة والدين والدولة من جهة أخرى؟
مشكلة هؤلاء أنهم لا يقرأون الإسلام إلا من صفحات التاريخ السوداء، يجوبون عصور الانحطاط وزمن إغلاق أبواب الاجتهاد وينتقون ما يشيع الفتنة بين الناس ثم يحاولون تعميمها باسم حرية الفكر والرأي والتنوير. إنهم يقومون باستعارة أحداث زمن الحواشي، والتقليد، والحروب الداخلية وإسقاطها على الإسلام كرسالة وحضارة، والإيحاء بفشل الأخير عن تصحيح مسارات السلوك الإنساني، ثم أنهم يثيرون الغبار على النصوص الجلية الواضحة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. هؤلاء العلمانيين يذكروني بتشبيه الأستاذ فهمي هويدي laquo;كأنهم عمال بلدية النظافة يجوبون الشوارع يبحثوا عن المخلفات والقمامةraquo;.
من أراد أن يفتش في التاريخ عن مثالب سيجد ما ينفس ما به من حظوظ وأهواء ضد الدين الإسلامي، ويفرح نفسه المريضة والأمارة بالسوء والتي تخدعه بأهمية البحث العلمي الكاذب. لكن الإسلام هو الإسلام وسيسود الأرض بعز عزيز أو بذل ذليل، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
ومع ذلك فالعدل يقتضي أن نقول ان لدينا نوعين من التطرف في مجتمعنا الإسلامي أحدهما تطرف ديني يقوم على رفض الآخر وتكفيره دون توافر للشروط وانتفاء للموانع أدى إليه فهم سقيم للأدلة والنصوص. والآخر تطرف علماني متلون بألوان الوطنية تارة، وبالليبرالية تارة أخرى وهما منه براء. وكلاهما فيروسا الغلو المدمر يسري في جسدنا محاولاً إهلاكه.
لكن هناك فرقا لابد من توضيحه وهو أن العلمانية التي تنادي بالفصل بين الدين والدولة لها رأيها وفكرها ويحق لها أن تناضل من أجله بالحجة والبرهان، أما العلمانية التي ترتكز على الطعن في شريعة الله والتجريح في العلماء والمجتهدين فهي ثمرة العلمانية الغربية وربيبتها، وزادهم هو ما أنتجه غلاة المستشرقين في الغرب وتلاميذهم عندنا. ومن باب الإنصاف فليس كل العلمانيين سواء ولا يمثل كل واحد رأي الآخرين. كما أنهم يختلفون عن دعاة الليبرالية التي تحترم الأديان ولا تهاجمها، بل إن الليبرالية في بعض صورها ترى الدين مكون أساسي لحماية المجتمع، وهو ما يرفضه غلاة العلمانيين.