مالك التريكي

هنالك عبارة بسيطة جدا شائعة في اللغة الإنكليزية هي 'زمن مهم' أو 'أزمنة مهمة'، كأن يقال 'لقد عاش فلان في زمن مهم' أو 'إن هذه حقا لأزمنة مهمة'. ويشار إلى هذه العبارة اختصارا بـ'اللعنة الصينية' لاعتقاد شعوب اللسان الإنكليزي، دون دليل قاطع، أن قدامى الصينيين كانوا إذا أرادوا أن تحل اللعنة بأحد دعوا عليه بقولهم 'عساك تعيش في زمن مهم'. ويقال إن هذه أولى لعنات ثلاث، ثانيتها هي: 'عساك تصير مثار انتباه (أو اهتمام) السلطات'. أما الثالثة، فهي: 'عساك تجد ما تطلب'.
على أن من المحققين من يرى أن نسبة عبارة 'الأزمنة المهمة' إلى الصينيين قد يكون سببها أن هناك مثلا صينيا يقول 'إن من الأفضل أن يكون المرء كلبا في زمن السلم على أن يكون رجلا (أو إنسانا) في زمن الفتن'.
وليس أدل على أهمية عبارة 'الأزمنة المهمة' في المخيال الأنغلوساكسوني من اتخاذها عنوانا في عدد من الروايات والمجموعات القصصية. ولعل أدل من هذا كله أن المؤرخ البريطاني الماركسي الشهير أريك هوبسباوم (أحد أهم الشهود على ما سماه 'أشد القرون فظاعة وفرادة في التاريخ الإنساني') قد اتخذها عنوانا لسيرته الذاتية: 'أزمنة مهمة: حياة في القرن العشرين'. وتمثل شهادة هوبسباوم نموذجا لجنس السيرة الذاتية الفكرية الذي كنا قد تطرقنا إليه قبلا، حيث أشرنا إلى أننا نفتقد هذا الجنس الكتابي النبيل في الثقافة العربية المعاصرة، لولا محاولات نادرة قد يكون من أبرزها 'رحلتي الفكرية في الجذور والبذور والثمر' للمرحوم عبد الوهاب المسيري، و'حصاد السنين' للمرحوم زكي نجيب محمود، و'أوراق: سيرة إدريس الذهنية' للمفكر المغربي عبد الله العروي.
هنالك طبعا تقاطع طريف، وربما مفاجىء، بين الحكمة الصينية التي تفضل حياة الكلب في زمن السلم على حياة الإنسان في زمن الفتن وبين الحكمة المعروفة في الآداب والأحكام السلطانية في التاريخ الإسلامي التي تعتبر أن مائة عام من الاستبداد أفضل من يوم واحد من الفوضى والاضطراب. أي أن الفكر السياسي السائد في التاريخ الإسلامي كان يعتبر أن 'الخروج على ولي الأمر' حرام، سواء كان ولي الأمر هذا من طراز الفاروق عمر أو الإمام علي أو الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز أم كان من طينة معظم الحكام الأمويين الذين قتل في عهدهم ما لا يقل عن ستة وثلاثين من أهل البيت أو معظم الحكام العباسيين الذين قتل في عهد أولهم أبي العباس السفاح وثانيهم أبي جعفر المنصور لوحدهما تسعة عشر رجلا من أهل البيت (ولم تقتصر جرائم هذه السلسلة الطويلة من الطغاة طبعا على التجرؤ على قتل أجيال من أهل البيت. إنما كفى بهذا دليلا على مدى ولوغهم في الدم ومدى عتوّهم في الجور والفساد). ولو أن المفاجأة سرعان ما تزول عندما يتذكر المرء أن هذه الحكمة (حكمة تفضيل مآمن الاستقرار ولو كان دكتاتوريا على مجاهل الحراك ولو كان ديمقراطيا) كانت تمثل العقيدة الرسمية للسياسة الخارجية الأمريكية في مختلف البلاد العربية، باعتراف السيئة الذكر كوندوليزا رايس في خطابها يوم 20 حزيران (يونيو) 2005 في القاهرة. ورغم أن رايس وعدت بقلب المعادلة (أي تفضيل الديمقراطية على الاستقرار) منذ ذلك اليوم فصاعدا، فإن معسول الكلام لم يزد الاستقرار إلا استقرارا. بل إن أوباما، الذي خطب هو أيضا يوم 4 حزيران (يونيو) الماضي في القاهرة، قد أثبت أنه أشد محافظة وحفاظا من جميع أسلافه على عقيدة الاستقرار السياسي وأنه أخوف ما يكون من أن تدرك العالم العربي 'أزمنة مهمة' قد تسفر اضطراباتها عن أنظمة ديمقراطية حقيقية تخدم مصالح شعوبها، ولكنها قد تسفر أيضا عن تهديد مصالح الهيمنة الأمريكية.
على أنه ما من شك في أن الأزمنة التي أدركت الإنسانية بأسرها فأظلتها منذ بداية هذا القرن هي 'أزمنة مهمة'، سواء بمعنى انبلاج فجر الحكم الرشيد، ونهضة بعض أمم الجنوب، وبداية نهاية عهد السيطرة الغربية المزمنة، وانفجار ثورة المعلومات والاتصالات، وتطور مجتمعات المعرفة، وتفوق بعض البلاد الإفريقية على جميع البلاد العربية في الديمقراطية والحريات، واستفاقة بعض البلاد الإسلامية غير العربية... أم بمعنى تكاثر الحروب والغزوات والاضطرابات والأزمات والفتن والمحن، وتجاوز عدد جوعى البشرية مليار نسمة، وانخرام توازن البيئة بل إظلام مستقبل الكوكب...
أزمنة مهمة حقا سواء بمعنى الأهمية الموجبة للاهتمام أم بمعنى الهم المتعاظم بتفاقم انجراف الشرط الإنساني نحو الأسوأ والأردأ.