يطلقون عليه في أميركا: ملك الفضاء وعاشق الصحراء
القاهرة - صفاء عزب
هو أحد كبار العلماء المرموقين ليس في مصر والعالم العربي فقط وانما في العالم كله لتخصصه وتميزه في مجال نادر هو أبحاث الفضاء وجيولوجيا القمر..كما أن له تاريخا مشرفا لكل العرب لأنه صاحب فضل كبير على البشرية في مساعدتهم للوصول الى القمر عندما كان ذلك حلما بعيد المنال, فهو الذي حدد مواقع الهبوط على سطح القمر وهو الذي علم رواد الفضاء الأميركيين في رحلة أبوللو الشهيرة كيفية وصف تضاريس القمر وتصويرها لذلك فانهم يطلقون عليه في أميركا ملك الفضاء وعاشق الصحراء...انه العالم الكبير الدكتور فاروق الباز عالم الفضاء في وكالة ناسا الأميركية ومدير مركز الاستشعار عن بعد بجامعة بوسطن الأميركية الذي حصد أكثر من ثلاثين جائزة من مختلف دول العالم تقديرا لمكانته العلمية المرموقة... زار مصر للمشاركة في بعض الفعاليات العلمية وخلال تلك الزيارة كان لـquot;السياسةquot;معه هذا الحوار والذي حذر فيه من غرق بعض المناطق الزراعية في العالم ومنها مصر ولكنه في الوقت نفسه حمل الينا بشرى طيبة بأن الصحارى العربية تسبح فوق بحيرة عظيمة من المياه الجوفية..فإلى الحوار:
كيف انطلقت رحلتك العلمية من منطقة ريفية بسيطة في مصر.. الى وكالة ناسا?
تربيت في أسرة من أبوين طيبين حرصا كل الحرص على تعليم أولادهما على أعلى مستوى رغم اننا كنا تسعة اخوة والحمد لله تعلمنا جيدا وكنا متفوقين جميعا ولم نعرف شيئا اسمه الدروس الخصوصية. ومن الوقائع الطريفة أن شقيقي الأكبر أسامة لاحظ تفوقي في تحصيل المعلومات قبل أن أدخل المدرسة, فأجروا لي اختبارا تفوقت فيه ما جعلهم يلحقوني بالصف الدراسي الثاني مباشرة. وكنت أهوى القراءة وجمع الصخور الغريبة وتأملها ولم أكن أدري أنني سأتخصص فيها, فقد كان حلمي أن أكون جراحا ولكن شاءت الأقدار أن يتغير مصيرى لدراسة العلوم بسبب مجموعي في الثانوية العامة وهناك اخترت دراسة الكيمياء والجيولوجيا وتفوقت وسافرت لدراسة الدكتوراه بأميركا ولما عدت لمصر ومعي حلم مشروع كبير يفيد مصر والتنمية فيها فوجئت بقرار تعييني مدرسا بأحد المعاهد وهو ما لم يصادف طموحي فسافرت مرة أخرى للولايات المتحدة الأميركية.
إلى ناسا
كيف وصلت لوكالة ناسا الفضائية في ذلك الوقت رغم كونك من بلد تؤيد المعسكر السوفيتي المعادي لأميركا آنذاك?
عندما سافرت الى اميركا فوجئت بأن الجامعات قد اكتفت بما لديها من مدرسين لأن العام الدراسي قد بدأ وظللت هناك عاما كاملا بلا عمل ولم أيأس وكنت أراسل كل الهيئات حتى جاءني الرد على خطابي رقم 121 الذي كنت أرسلته لوكالة ناسا الأميركية لعلوم الفضاء لألتحق بالعمل هناك والطريف أنني لم أكن أعلم شيئا عن القمر ولم يكن من أحلامي ما وصلت اليه بل كل ما كنت أطمح اليه هو أن يشعر الأميركان بوجودي وامكاناتي, ومن هنا قررت أن أذاكر كل شيء عن القمر وصخوره حتى وفقني الله في أحد المؤتمرات العلمية المهمة أن أتحدث وأشرح تفاصيل عن سطح القمر ونقاط الهبوط الممكنة عليه قوبلت باستحسان وتقدير منهم من دون النظر لأي اعتبارات سياسية لأنهم يقدرون المجتهد والعالم بصرف النظر عن انتماءاته.
هل فعلا حددت نقطة الهبوط لأول رحلة?
بعد دراسات علمية مستفيضة حددنا 16 نقطة هبوط على سطح القمر ونجحنا في وضع تصور لرواد الفضاء ساعدهم في رحلتهم التاريخية.
ألم تحلم بأن تكون مع هؤلاء الرواد على سطح القمر?
فكرت بالفعل في ريادة الفضاء والتحليق فيه وعندما سألت عن امكانية تحقيق ذلك عرفت أنه يشترط لكي أكون رائدا للفضاء أن أنعزل لمدة عامين كاملين في أحد مؤسسات تعليم الطيران وهو ما لا يمكن تحقيقه بالنسبة لي لأن معني ذلك أن أترك أبحاثي ومعملي طوال العامين ويتعطل كل شيء فقررت أن أبقى على الأرض.
ما شعورك بعدما وصلت لهذا الانجاز العلمي الكبير?
لا يمكن أن أعتبر نفسي حققت كل شيء أو وصلت لنقطة النهاية كما يظن البعض مثلا ممن يحصلون على شهادة الدكتوراه فهذا تفكير خطأ لأن العلم في تطور مستمر كما أن الحصول على الشهادة لا يعني النهاية بل يعني بداية مرحلة جديدة من العلم والبحث الذي يعتمد فيه البروفيسور على نفسه دون أن يأخذ بيده شخص آخر, وهذا عكس ما يحدث في أنظمة التعليم والبحث في بلادنا وهذا هو سر تقدم العالم الغربي وتفوقه علينا.
مشكلة التعليم
يبدو واضحا من حديثك عدم رضاك عن حال التعليم في بلادنا?
للأسف الشديد التعليم كارثة كبرى تحتاج الى اصلاح شامل وتجنيد لكل الموارد لفترة زمنية معينة من أجل اعادة العملية التعليمية الى وضعها الصحيح لكي تخرج كوادر على مستوى عال من العلم كما كان الحال في عصري فأنا لم أتعلم تعليما أجنبيا ولا خاصا فقد كان والدي أزهريا بسيطا يعلمنا في مدارس الحكومة ولكنها كانت تقوم بدورها بدليل أنني وغيرى ممن نجحوا في العالم تخرجوا فيها وأحد أسباب زيارتي الحالية لمصر كانت مقابلتي لوزير التعليم للمناقشة حول كيفية تطوير التعليم واعادته الى مساره الصحيح, فبدون التعليم لا يمكن تحقيق نهضة حقيقية وأتمنى أن نستفيد من تجارب من سبقونا من الدول التي كانت في حالة سيئة ثم ركزت في التعليم ومنها كوريا الجنوبية وقطر وغيرهما, فلابد من وضع خطة على مراحل وليس مجرد شعارات لطمأنة الناس ولابد من اخبار الناس بأن الأمر يستلزم سنوات حتى لا يتعجلوا النتائج ويتساءلوا أين تطوير التعليم?.وهو أمر ليس قاصرا على مصر وحدها وانما في عالمنا العربي كله فالتعليم هو كلمة السر في تقدم الدول والشعوب.
لكن هناك مشكلة تواجه العالم العربي كله خاصة في نقص الموارد المادية اللازمة للبحث العلمي فكيف يمكن تحقيق هذه المعادلة الصعبة?
لا أعتقد أن الفقر في الموارد يمكن أن يكون حائلا بيننا وبين التقدم العلمي والتكنولوجي, والدليل أن هناك دولا أكثر فقرا وأقل في مواردها ومع ذلك نجحت في تحقيق معجزات, بل على العكس قد تكون الظروف الاقتصادية حافزا للارتقاء والخروج منها بالعلم وعاملا ايجابيا لزرع مناخ من الجدية والاخلاص في البحث العلمي ودافعا للتحدي واثبات الذات في مواجهة الظروف غير الملائمة.
مياه الصحارى
بحكم اهتمامك الشديد بالصحارى ودراستها بتعمق, ما حقيقة التصريحات الخاصة بوجود مياه أسفل الصحارى العربية?
بداية أعترف أنني كانسان عربي لم أكن أعرف كثيرا عن صحارينا العربية وكان الغرب يعرفون أكثر منا بينما نحن لا نعرف قيمة ثرواتنا وهذا أمر مؤسف ومخجل ولكن من خلال عشقي للصحراء ودراستي للصحراوات العربية من الناحية الجيولوجية وجدت أنه تم اكتشاف مياه صحراء الربع الخالي في المملكة العربية السعودية وهي مياه هائلة تكفي لكل الاستخدامات وقد نجحت المملكة في استغلالها في زراعة القمح وهو شيء رائع. وتكررت نفس التجربة في الصحراء الغربية المصرية وتم اكتشاف روافد لأنهار جافة تحت الرمال الموجودة في بحر الرمال الأعظم.
كيف اكتشفت هذه الحقيقة المثيرة وأدركت مكان الماء في أجواء مثل الصحراء الرملية التي مازلنا نصفها بأنها لا زرع فيها ولا ماء?
هذا بفضل أبحاث وعلوم الفضاء وعلوم الاستشعار عن بعد التي قد يتساءل البعض لماذا ننفق عليها أموالا طائلة ولا نستفيد منها شيئا,فالحقيقة أن دراسة هذه العلوم تمنحنا تكنولوجيات فائقة التقدم تدعمنا في مختلف المجالات حتى في المأكل والملبس. وكذلك تكنولوجيا الاستشعارعن بعد أفادتنا كثيرا في تصوير أعماق الصحارى وما تحت الرمال واكتشاف ما ينبئ عن احتمالات وجود مياه في أعماقها. وعلى سبيل المثال درست الصحراء المصرية لسنوات طويلة وأعلنت عن وجود مياه بها رغم معارضة الآخرين وعدم اقتناع المسؤولين ولكن بعد استمرار الحاحي لسنوات في طلب حفر بئر في المنطقة للتأكد مما أقوله كانت المفاجأة المدهشة هي خروج المياه من أعماق الصحراء متدفقة بقوة على عمق 25 مترا في شكل مفرح وكان من نتائج ذلك النجاح في استصلاح أراضي في تلك المنطقة وزراعتها بالقمح وكان المحصول أفضل كثيرا من القمح المزروع في الأراضي التقليدية.
العالم يغرق
ما رأي علوم الاستشعارعن بعد فيما يتردد عن أن الغرق يهدد مناطق كثيرة في عالمنا العربي?
للأسف الشديد أثبتت الأبحاث العلمية أن هناك نحو 21 مدينة في العالم مهددة بالغرق بسبب ارتفاع منسوب المياه في البحار الناجم عن التغيرات المناخية في العالم وارتفاع درجات الحرارة عن معدلاتها وعلى رأس هذه المدن القاهرة والاسكندرية. وأن الخطر أصبح يهدد مجموعة من الدول تدخل في نطاق الأكثر عرضة للغرق منها الولايات المتحدة الأميركية واليابان والصين واندونيسيا وفيتنام وتايلاند والفلبين والهند وبنغلاديش وباكستان والأرجنتين ونيجيريا والبرازيل. وللأسف أن المنطقة العربية ستدفع ثمنا باهظا لهذه المخاطر في صورة خسائر اقتصادية ضخمة تقدر بعشرات المليارات بخلاف الأزمات العالمية لنقص المساحات المنزرعة حيث إن الغرق سيصيب المناطق الخصبة في العالم وبالتالي تنخفض انتاجية الحاصلات الزراعية فمثلا دلتا نهر النيل في مصر يتوقع لها أن تنتهي تماما خلال 183 سنة. وهو واقع يدفعنا لضرورة الاهتمام بالأبحاث العلمية الخاصة بكيفية ايجاد حلول استباقية لتأمين أولادنا وأحفادنا من الخطر المحدق بهم في المستقبل بدلا من أن نفاجأ بالخطر يقترب جيلا بعد جيل.
هل سيشهد العالم أحداثا أخرى أو ظواهر غريبة تنتظر انسان هذا العصر يمكن أن تدمره مثلا, وهل حقا تؤمن بالغيبيات والقوى الخفية في بعض المواقف?
العلم لا حدود له وكل يوم هناك جديد بالنسبة للظواهر الكونية وكان أحدثها ما حدث للمسبار الذي يدور حول الأرض منذ سنوات ولوحظ بطء سرعته الأمر الذي يعني أنه مهما كان الفرق ضئيلا جدا في السرعة هناك تغيرات ما تحدث في الكون ربما نكتشفها قريبا وقد تكون هناك قوى أخرى لا نعلمها تؤثر على هذا المسبار الفضائي. وأنا لا أنكر ايماني بوجود عوالم أخرى كالجن تعيش من حولنا وان كنا عاجزين عن اثبات وجودها الآن ولكنها قطعا موجودة.
ذكريات
ماذكرياتك عن فترة عملك مع الرئيس السادات كمستشار علمي له?
فترة عملي مع الرئيس الراحل أنور السادات أعتز بها في حياتي ولا أنسى طريقته المميزة وأسلوبه الذي عرفناه به في الحديث فقد أرسل في طلبي ولما عدت من أميركا قابلته وكانت لديه عدة أفكار جميلة للاهتمام بتعمير سيناء بعد استلامها كاملة وكان شغله الشاغل مشروعات التعمير هناك وقد استعان بي في هذا الأمر خاصة وأنني أيضا كان لدي مشروع قومي كبير للتنمية بمصر وأذكر أن الرئيس فاجأني أمام مجموعة من طلبة وأساتذة الجامعات بتعييني مستشارا علميا له قبل أن يخبرني وعملت معه فترة وعدت لأبحاثي بعد ذلك في أميركا.
ماذا يمثل لك شقيقك الأكبر الدكتور أسامة الباز مستشار الرئيس مبارك للشؤون السياسية.. وهل يمكن أن تختلفا في بعض الأمور?
هو شقيقي الأكبر وأستاذي الذي تعلمت منه كثيرا. ولاشك أننا ندخل في مناقشات عدة ومن الوارد أن نختلف في بعض الأمور وهذا شيء طبيعي ولكن بصفة عامة نحن متفقان على أن كلا منا لا يتدخل في عمل الآخر لذلك لا أحب الخوض في الأمور السياسية فأنا عالم متخصص في العلم وأفهم في العلم وبالتالي لا يمكن أن أتكلم إلا فيما أتخصص فيه فالعالم يتكلم في العلم والسياسي يتكلم في السياسة.
عاشق أم كلثوم
كعالم فضاء هل حياتك مختلفة عن حياة الآخرين?
quot; ضاحكاquot; ليست مختلفة فأنا انسان بالدرجة الأولى وقد نشأت في عصر كان الطرب الأصيل والفن الجميل هو سمته المميزة ولذلك لا أستمتع الا بالأغاني القديمة فأنا عاشق لأم كلثوم وعبد الوهاب وفوزي وفريد الأطرش وكل هؤلاء المطربين الحقيقيين وبالنسبة لما يحدث اليوم ويقدم على كل المستويات من غناء وتمثيل وفن بشكل عام أراه يعكس حالة التدهور التي نعاني منها ولا يمكن أن اقبله أبدا أو أقضي وقتا ممتعا معه.
لماذا لم ترث أي من بناتك الأربع حب العلم?
بناتي الأربع quot; طلعوا لأمهم quot; في حب الفنون وربما أدركوا أن العلم لا يعطي ثروة, ولكن على كل الأحوال أنا أحترم رغباتهن ولا يمكن أن أجبر احداهن على الدخول في مجال لا تحبه والا فلن تنجح فيه.
هل معني ذلك أنك لم تنجح في تكوين ثروة مادية كبيرة من وراء كل هذا المجد العلمي الذي حققته?
الثروة المادية لم تكن في حساباتي ولم أسع اليها في يوم من الأيام والحمد لله فأنا اعيش وأسرتي quot; مستورين quot; فالستر نعمه كبيرة يعرف قيمتها المصريون جداً.
ألم يراودك الحنين للوطن وأنت في هذه الغربة الطويلة?
الحنين للوطن لا يتركني خاصة وأن أشقائي وعائلتي الكبيرة فيه ولذلك أحرص على التواجد أكثر من مرة على مدار العام وأنتهز الفرصة لألتقي بالأهل والأصدقاء حسب ما يسمح به وقتي لأن أبحاثي العلمية تستحوذ على الوقت الأكبر, كما أن أحفادي الستة يطلبون مني دائما أن أصطحبهم في زياراتي لمصر فهم مرتبطون مثلي بالجذور.
التعليقات