وحيد عبد المجيد

كثيرة هي التحديات التي واجهت إدارة الرئيس أوباما في معالجتها أزمة تشكيل الحكومة العراقية الجديدة. غير أن التحدي الأكبر ارتبط بسعيها إلى إثبات أن النفوذ الأميركي لم ينحسر، وأن العراق لم يصبح منطقة نفوذ إيراني. وهذا تحد مزدوج. فهو يتعلق قبل كل شيء بإعادة تأكيد مكانة الدولة الأعظم التي تطلعت ذات يوم قريب إلى إعادة ترتيب منطقة الشرق الأوسط انطلاقاً من التغيير الذي أحدثته في العراق.

لكن لهذا التحدي بعداً آخر لا يقل أهمية، يرتبط بالتداعيات السياسية والاستراتيجية التي يمكن أن تترتب على فكرة أن العراق صار منطقة نفوذ إيراني. فمن شأن تكريس هذه الفكرة تدعيم موقف معارضي أوباما المحافظين الذين يطالبون بالشروع في تفعيل الخيار العسكري ضد إيران التي لا يبقى خطرها- والحال هكذا- محصوراً في برنامجها النووي.


لذا كان على إدارة أوباما أن تجد صيغة لاتفاق عراقي يحقق لها نجاحاً في مواجهة هذا التحدي المزدوج عبر إعادة تأكيد النفوذ الأميركي من ناحية ومواجهة الضغوط الداخلية بشأن سياستها تجاه إيران من ناحية ثانية.

فعندما تسارعت جهود إدارة أوباما في نهاية أكتوبر الماضي وأوائل نوفمبر الجاري لحل المشاكل التي واجهت إكمال الاتفاق الجديد لتقاسم السلطة، كانت الضغوط الداخلية عليها تزداد قوة نتيجة عاملين: أولهما أن بعض الوثائق التي نشرها موقع quot;ويكيلكيسquot; الإلكتروني، وأفاضت صحف أميركية وغيرها في الحديث عن مضمونها، تضمن ما يمكن اعتباره دلائل جديدة على المدى الذي بلغه النفوذ الإيراني في العراق.

لذلك التقط دعاة الحرب على إيران ما ورد في هذه الوثائق، وطرحوه على الرأي العام مشفوعاً بتفسيرات وتأويلات تثير الفزع مما ينتظر الولايات المتحدة في العراق. وأصبح أوباما مطالباً بالاعتراف بأن النفوذ الإيراني في العراق بلغ حداً لا يمكن السكوت عليه.

أما العامل الثاني فهو الفوز الذي حققه الجمهوريون في الانتخابات النصفية في ظل انعطافة يمينية قوية صنع تيار quot;تي بارتيquot; اتجاهاتها الأساسية. واقترن ذلك بازدياد ضغوط المحافظين من أجل دعم الخيار العسكري ضد إيران، واستئناف السعي الإسرائيلي إلى تعزيزه خلال زيارة نتنياهو الأخيرة لواشنطن. فقد طلب نتنياهو أن توجه الولايات المتحدة quot;تهديداً عسكرياً ذا صدقيةquot; ضد إيران. واضطر وزير الدفاع الأميركي جيتس للرد علناً بالقول إنه لا يتفق مع الرأي القائل بأن التهديد العسكري هو السبيل الوحيد لحمل إيران على التعاون بشأن برنامجها النووي، موضحاً أن الضغوط التي تمارسها واشنطن تحقق تأثيراً.

لذلك كان إبرام اتفاق لتقاسم السلطة في العراق يتسم بالتوازن، ضرورة قصوى بالنسبة لإدارة أوباما لإثبات أن دورها لم ينحسر وأن النفوذ الإيراني لم يطغ إلى الحد الذي يستدعى تدخلاً عسكرياً فورياً أو عاجلاً. وكان نجاحها المزدوج في ذلك نتيجة عوامل أهمها أنها أدارت أزمة تشكيل الحكومة بطريقة واقعية وعملية من أجل بناء توازن يتيح للحكومة الجديدة حرية حركة على المستوى الإقليمي وقدرة على ضبط الوضع الداخلي بقدر الإمكان.

ولذلك كان هدفها الأول، الذي نجحت في تحقيقه، هو تشكيل حكومة ذات صفة تمثيلية تضم القوى الأساسية كلها وتقوم على أوسع قاعدة ممكنة. وحرصت على دور أساسي لقائمة علاوي (القائمة العراقية) التي تضم المكونات الأكثر تعبيراً عن إرادة القطاع الأوسع على الإطلاق بين سَُنة العراق، في إطار صيغة متوازنة تتقاطع عندها المصالح الأميركية والإيرانية.

وعندما وجدت واشنطن أن المالكي هو المرشح الأكثر ملاءمة لرئاسة الحكومة الجديدة، لم يكن هذا مجرد موقف واقعي في ضوء quot;الفيتوquot; الإيراني على علاوي، بل كان مؤشراً على تفكير عقلاني ينطلق من الحاجة إلى حكومة قابلة للاستمرار وقادرة على تحقيق شيء من الاستقرار. وهي لا يمكن أن تكون كذلك إذا رفضتها إيران وعمدت إلى زعزعة الأرض تحت قدميها. فلم يكن ممكنا أن تراهن واشنطن على علاوي، وهي التي تتطلع إلى أجواء مستقرة نسبياً تتيح لها إكمال سحب قواتها في العام القادم. لكنها سعت إلى ضمان دور بارز لقائمته، ونجحت في ذلك ربما بدرجة أكبر مما كان يمكن أن يتاح في حال توليه رئاسة الحكومة أو الجمهورية. فما كان له أن يحصل على أحد هذين المنصبين بدون ثمن كبير يدفعه أركان قائمته نتيجة اضطراره إلى إرضاء ائتلاف المالكي (دولة القانون). ووفق هذا التصور الافتراضي، ربما تصعب المحافظة على وحدة quot;العراقيةquot; وتماسكها في حال تولي علاوي رئاسة الحكومة بشروط باهظة تخفض نصيبها في المقاعد الوزارية وتحرم بعض أركان هذه القائمة من مناصب يتطلعون إليها.

لكن الصيغة التي تم إقرارها عززت فرص quot;العراقيةquot; في الحصول على مناصب وزارية أكثر عدداً، ومن بينها وزارتان سياديتان، ونائب رئيس وزراء، إلى جانب نائب رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان، فضلاً عن إلغاء قرارات quot;الاجتثاثquot;، ورئاسة مجلس السياسات الاستراتيجية حتى إذا كان هذا المجلس مجرد لافتة بسبب صعوبة توافق 80 في المائة من أعضائه على أي قرار استراتيجي. وهذا هو الوضع الأفضل بالنسبة لـquot;العراقيةquot; من زاوية التوازنات المعقدة في داخلها، والتي تعتبر أكثر صعوبة مقارنة بأية قائمة أو تكتل برلماني آخر.

ونجحت إدارة أوباما كذلك، خلال معالجتها الأزمة، في تعظيم دور الأكراد الذين قادوا المفاوضات الأكثر حسماً في النهاية وقدموا الورقة الأساسية التي استند اليها اتفاق تقاسم السلطة (مبادرة بارزاني)، على نحو يساهم في الحد من الاستقطاب الشيعي السُنَّي، ويضع بالتالي الأساس لمعادلة مستقبلية أكثر مرونة لا يسهل على إيران التأثير فيها، فضلاً عن تعزيز شعور الأكراد بالانخراط في شؤون الوطن.

والأرجح أن حفز الأكراد على التحرك وامتلاك زمام المبادرة الداخلية لإنهاء أزمة تشكيل الحكومة، كان القصد من وراء مقترح نائب الرئيس الأميركي بايدن منح علاوي منصب رئاسة الجمهورية. فليس ممكناً، وربما يكون مستحيلا، أن يقبل الأكراد التنازل عن هذا المنصب. ويعلم الأميركيون ذلك، مثلما يعلمون أن تخلي الأكراد عن رئاسة الجمهورية يفاقم الاستقطاب الشيعي السُنَّي ويعني بالتالي محاولة حل مشكلة بأخرى أكبر منها وأشد خطراً.

لذلك، فما أن طُرحت فكرة بايدن حتى دب النشاط في أوساط القيادة الكردية وأظهر رئيس إقليم كردستان مهارة تفاوضية أتاحت التوصل إلى اتفاق تقاسم السلطة وحل أزمة امتدت نحو ثمانية أشهر في لحظة كانت فيها إدارة أوباما بأمس الحاجة إلى مثل هذا الإنجاز في مواجهة تحد داخلي يتعاظم وليس فقط لإعادة تأكيد قوة دورها في العراق.