غازي العريضي


في ظل أزمة تشكيل الحكومة العراقية، والحديث المستمر عن الفتنة السنيّة ndash; الشيعية، والتي انفرجت تدريجياً خلال الآونة الأخيرة، يتقدم مشروع التغيير في العراق، لكن يبدو أن هذا التغيير يتجه نحو سيناريوهات أرى إنها الأسوأ. وأخشى أن يسير هذا التغيير نحو بلد تسيطر عليه المذهبية والعرقية والقوميات ولا تنوّع فيه. لن يبقى مسيحيون فيه. وهذا هو أبشع وجوه التغيير.

بعض المسيحيين يتعرضون للقتل في كنائسهم، وفي مناطق تواجدهم ومراكز أعمالهم، ويتم ترهيبهم وتخويفهم والاعتداء عليهم بكل الأشكال والأساليب. عدد كبير منهم قتل، عدد آخر هجّر، عدد إضافي هاجر، والباقون يبدو مصيرهم أسود !

هذا ليس قتلاً للمسيحيين وحدهم، هذا قتل للعراق العربي. قتل لحضارة عمرها آلاف السنين، قتل لمستقبل. ومشروع تنقية البلاد من عنصر من أهم عناصر تكوينها ثقافياً وسياسياً وإنسانياً وقيماً روحية وتراثاً. ليس هذا العراق الذي نعرفه. ولا هو العراق الذي نريده. وليست التنقية الحالية وحدها التي تسود.

لقد تم إفراغ مناطق من السنّة، كما تم إفراغ مناطق أخرى من الشيعة أثناء الاحتلال الأميركي. وفي ظل وجود قواته وممارسة حكامه. وتم تغيير أسماء بعض أبناء الطائفة الشيعية الذين يقطنون مناطق سُنية كي لا يستهدفوا على أسمائهم وحصل العكس مع أبناء الطائفة السُنية الذين يتواجدون في مناطق ذات كثافة شيعية. وتمت تنقية مناطق من الأكراد. كما تمت تنقية مناطق كردية من quot;العربquot;. إنها عملية الفرز من جهة وضم أبناء المذاهب إلى مناطق منفصلة وإلى بعضهم البعض من جهة أخرى.

أما المسيحيون فيبدو أنهم مستهدفون دائماً.

هكذا بعد المجزرة الجماعية التي استهدفت بعض المسيحيين في كنيسة quot;سيدة النجاةquot; للسريان الكاثوليك في بغداد، ثم قتل شقيقين مسيحيين في الموصل، وتهديد آخرين في أماكن كثيرة وهرب قسم إلى الخارج.

وفي الخارج، أعلنت دول أوروبية وعلى رأسها فرنسا الاستعداد لإعطاء quot;اللاجئين العراقيينquot; المسيحيين تحديداً حق اللجوء السياسي.

وعلى صعيد آخر ثمة من خرج ليقول، إن هذه الدول على استعداد لقبول المزيد من المسيحيين القادمين من بلاد أخرى لتوفير نوع من التوازن مع المسلمين القادمين هم أيضاً من بلاد أخرى!

نعم، هناك في القارة الأوروبية مشكلة مهاجرين تأخذ بشكل خاص طابعاً إسلامياً. والسبب في ذلك يعود إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في عدد من الدول العربية والإسلامية في شمال أفريقيا، إضافة إلى روابط بين بعض أبناء هذه الدول وأقارب لهم هاجروا منذ أيام الاستعمار الفرنسي وغيره لتلك الدول.

وفي هذا السياق نبدو، وكأننا في مواجهة هذه المشكلة ومحاولات بعض الأنظمة طرد عدد كبير من اللاجئين نتجه نحو عملية فرز لمجتمعات كبيرة على أساس طائفي، كما يحصل فرز في دول أخرى على أساس مذهبي أيضاً.

الخوف على الوجود المسيحي في منطقتنا حقيقة قائمة؛ والخوف على الفتنة بين المسلمين، وعلى دورهم وتأثيرهم حقيقة ثانية قائمة.

والخوف من بعض المسلمين المتطرفين حقيقة راسخة ثابتة. والخوف على وحدة الانتماء داخل الدول العربية وبين بعضها البعض حقيقة مؤلمة أيضاً...

إنها منطقة الخوف والمخاوف. ويبدو أنها منطقة مخيفة وخائفة، منطقة يساورها القلق، فباتت مقلقة وأيضاً مستنفرَة بكل عناصرها ومستنفِرة كل عناصرها بوجه بعضها البعض، والكيان الإسرائيلي الذي زرع فيها يبدو الأكثر ارتياحاً رغم كل أزماته.

واللافت الآن أن إسرائيل تبدو الأكثر تلاعباً أو قدرة على التلاعب بعناصر أزمات المنطقة واللعب على ساحاتها وخلق عناصر إضافية.

منطقتنا العربية بلا المسيحيين تصبح منطقة أخرى، وفي هذه الحالة، فإن بلادنا التي يتواجد فيها المسيحيون لا تعود بلادنا التي عرفناها ونعرفها، ونريدها أن تبقى كما كانت إذا غادرها المسيحيون، وأيضاً إذا استشرت فيها عوامل المذهبية والتطرف.

والتطور الديموغرافي هو في التحليل الأخير حقيقة لا بد من التعامل معها، ولابد أيضاً من الوقوف عندها، وهي موضوعية بطبيعة تكوين المنطقة وتطور حركة وحياة الشعوب فيها.

لكن، إذا عدنا إلى أساس الدين، وإلى أساس اللغة والانتماء لأدركنا أن عنصر الديموغرافيا الموضوعي الذي يعطي أكثرية ساحقة لفئة مقابل الأخرى وبالتحديد للمسلمين مقابل المسيحيين يجب ألا يقود أحداً إلى سياسة تهور أو استقواء أو استعلاء.

ومهما اشتدت صراعاتنا مع الغرب وسياساته فلا يجوز ربط مصير مسيحيي المنطقة بها والقيام بردات فعل ضد المسيحيين هنا وهناك.

وأرى أيضاً أنه مهما برزت فئات أو حركات متطرفة في البيئة الإسلامية، فلا يجوز الوقوع في ما يريده الغرب وبالتحديد أميركا وبالتأكيد إسرائيل، فننظر إلى أن الإسلام هو الإرهاب ونعمم هذا الشيء في كل مواقفنا ومواقعنا وتصرفاتنا وندخل مراحل الفوضى والضياع ونبدد كل شيء.

نحن بحاجة إلى رجال كبار حكماء عقلاء يزينون كل كلمة يقولونها. ونحن بحاجة إلى أناس يقدرون مسبقاً عاقبة كل موقف يعلنونه أو خطوة يتخذونها.

ولا شك أن الخطورة علينا فيما ذكرت، تكاد تكون أكبر من كل الطاقات ولو توحدت، فكيف إذا كنّا نفتقد إلى هؤلاء الكبار؟