وليد نويهض

في الأول من سبتمبر/ أيلول المقبل يفترض أن تكون قوات الاحتلال الأميركية قد أنهت تموضعها العسكري (الانسحاب الجزئي) في بلاد الرافدين. وقبل أن نصل إلى تلك المرحلة بدأت المخاوف تقلق إدارة واشنطن فأخذت بإرسال نداءات استغاثة تطالب المتعاملين الإسراع في تشكيل حكومة اتحادية تنقذ العراق من فوضى محتملة.

واشنطن أعلنت مراراً أنها لن تؤخر انسحابها المبرمج على خطوات ودفعات تنتهي في مطلع العام 2012 حتى لو فشلت المجموعات السياسية في التوصل إلى صيغة ائتلافية تضبط إيقاع الفوضى التي تولدت بعد احتلال العراق وتقويض دولته وتمزيق هويته وبعثرة وحدته الأهلية. والإدارة الحالية التي ورثت الحرب وتفاعلاتها وتداعياتها عن السابقة تبدو عاجزة حتى الآن على ترتيب استراتيجية بديلة عن تلك التي اعتمدها جورج بوش في مرحلة الهجوم أو حين توصل إلى توقيع اتفاقات أمنية مع رئيس الحكومة المنتهية ولايته نوري المالكي.

إدارة باراك أوباما تتمسك بالاستمرارية وتعتبر أن الحزب الديمقراطي غير مسئول عن الحرب وما أسفرت عنه من دمار ذاتي أودى بحياة الآلاف وشرد الملايين وأعاد توزيع العراق إلى مراكز قوى مناطقية تقودها ميليشيات طائفية ومذهبية. وهذا الانسحاب من المسئولية الدولية والقانونية والسياسية والأخلاقية والاكتفاء بذرف دموع التماسيح ومطالبة الميليشيات بالإسراع في تشكيل حكومة لا يسقط أو يخفف من مسئولية واشنطن عن الكارثة وتداعياتها. فالتاريخ في النهاية يمتلك قراءة أخرى لما حدث وما سيحصل في المستقبل القريب أو البعيد.

قريباً هناك جملة تداعيات قد تطرأ على الخريطة العراقية لأن التركة الأميركية ثقيلة في نتائجها الميدانية مهما تذرعت واشنطن وساقت من أسباب تبرر فعلتها الكارثية. فأميركا تنسحب بعد أن نجحت في تقويض الدولة وإعادة توزيع الخريطة السكانية للعراق وفشلت في إعادة إنتاج دولة وترتيب علاقات أهلية متوازنة ترث ما أسسه الاحتلال منذ العام 2003.

الفشل كارثي في مختلف المعايير والمستويات. وإدارة أميركا التي تتحدث عن عراق جديد وديمقراطية وجيش بديل تعتمد عليه الحكومة لضبط الأمن ومنع انتشار الفوضى وامتداد العنف يحتاج إلى مراجعة وتدقيق للتعرف على مدلولات الكلمات ومدى صلتها بالواقع الميداني.

العراق الآن انكشفت ساحته إقليمياً ودخل في طور انعدام الهوية الجامعة. ومصطلح عراقي مجرد كلمة وهمية تدل على شيء غير موجود على أرض الواقع. وحين تختفي أو تتلاشى الهوية الجامعة تنمو مكانها هويات صغيرة وضيقة تلغي المشترك وتؤسس على أنقاضه مجاميع من الهيئات المتنافسة على الغنيمة والمناصب. وظاهرة الاختلاف على تشكيل حكومة بعد مرور أربعة أشهر على الانتخابات النيابية ليست سوى علامة واضحة تؤكد اضمحلال المشترك الذي يجمع الناس تحت عنوان موحد.

الجيش laquo;العراقيraquo; مثلاً الذي مولته ودربته وجهزته الإدارة الأميركية ليس عراقياً في المعنى السوسيولوجي والسيكولوجي لأنه يفتقد إلى الهوية الجامعة. وتحت عنوان laquo;الجيش العراقيraquo; تصطف مجموعة جيوش طائفية ومذهبية ومناطقية. وتحت laquo;قبة البرلمان العراقيraquo; تتجمع أقواس قزح ملونة بالطوائف والمذاهب والقبائل والعشائر والأقوام المتزاحمة لوراثة ما أنتجه الاحتلال من أنقاض.

انهيار الدولة (المركزية) جرف معه الهوية العراقية وأنتج تحت الأنقاض والخراب دويلات تتعايش يومياً مع انقسامات ميدانية يصعب توحيدها تحت سقف مشترك يشد الأطراف الفيدرالية إلى مركز يمتلك آليات دستورية تعيد إنتاج العراق في صيغة أكثر تطوراً وتسامحاً.

انعدام المشترك (الهوية الجامعة) يعطل إمكانات توليد طاقة تصهر المتعارضات في سياق يؤطر الطوائف والمذاهب في معادلة متوازنة تضبط الفوضى وتمنع انتشار العنف الأهلي وتسد الفراغات الأمنية المتوقع أن تنشأ مع خطوات الانسحاب في نهاية أغسطس/ آب المقبل. فالدولة البديلة ليست عراقية. والجيش ليس عراقياً. والبرلمان ليس عراقياً. والحكومة المتوقع تشكيلها لن تكون عراقية. والسبب أن البديل أشبه بالكونفيدرالية (أمراء طوائف ومذاهب ومناطق) المتلونة بأطياف الجزئيات الصغيرة التي تتشكل منها الجماعات الأهلية.

بناء على هذا الواقع المتناثر يرجح أن تكون النتيجة مأسوية لأن العراق أصبح laquo;عراقاتraquo; تبحث عن عباءات ومظلات تستقوي بها لتعديل التوازن الزئبقي المحلي وترويض الخصوم في إطار معادلة القوة والغلبة. وهذا النوع من النموذج المتخلف الذي أنتجه الاحتلال وفرضته شروط الواقع المتشعب في الانتماءات والولاءات سيكون مصيره مقارباً للنموذج اللبناني وانزلاقاته الطائفية ndash; الإقليمية. فالهوية شكلية وموجودة في العناوين العامة ولكنها مفقودة في المعاملات وعلى أرض الواقع.

العراق الآن أصبح عراقات مفتوحة على تجاذبات أهلية ndash; إقليمية تلعب دورها الخاص في إعادة تشكيل شخصيته القلقة واحتمال انفتاح الأزمة على مسارات متدحرجة من العنف والدمار الذاتي والتآكل الناجم عن الاقتتال على الغنيمة من جانب والدعم الخارجي من جانب. ونشوء مثل هذه الظاهرة ليس غريباً لأن العراق في وضعه الراهن لم يتأسس على تطور سياسي طبيعي وإنما تم إنتاجه بناء على الاحتلال والتقويض وتمزيق الهوية الجامعة. فالتطور القسري يولد دائماً نماذج متشوهة تفتقد القدرة على العيش من دون مساعدة. وهذا الأمر يفسر طبيعة الاتصالات التي تتنافس الشرائح السياسية على تكوينها تمهيداً لتشكيل الحكومة. وحين تكون القوى المحلية نتاج سياسة الاحتلال والتقويض فإنها بالطبع لن تتردد في البحث عن غطاء بديل تستقوي به على أهلها في لحظة غياب الأصيل ورحيل الاحتلال عن مشهد العراق.

القوات الأميركية باشرت تراجعها الجزئي وخفض جيوشها من 80 ألفاً إلى 50 ألفاً تمهيداً لتعديل دورها في المعادلة الداخلية في الأول من سبتمبر، ولكن laquo;العراقاتraquo; المتوزعة على أمراء الطوائف والمذاهب والمناطق ستواصل هجومها بحثاً عن بدائل تعوض خسارة الاحتلال وتساعد أو تنفذ أو توفر المسالك التي تضمن الحصص في معركة تقاسم الغنيمة.