رغيد الصلح

كانت مسألة عدد المؤتمرات السنوية التي تعقدها القمة العربية واحدة من القضايا التي دار حولها النقاش في الاجتماعات التي عقدتها جامعة الدول العربية في سياق تطوير منظومة العمل المشترك . ولقد تباينت الآراء في الخطوات والمشاريع الآيلة إلى تحقيق هذه الغاية . واستأثر اقتراح عقد مؤتمرين دوريين للقمة العربية بدلاً من مؤتمر سنوي واحد بقسط واسع من النقاش، وانقسم المشتركون في الاجتماعات إلى فريقين رئيسين، واحد أيد المقترح، وآخر تمسك بالوضع الراهن أي بعقد قمة مؤتمر سنوي واحد .

النقاش حول هذه المسألة بدا أحياناً وكأنه تباين في الاجتهادات حول التفاصيل وحول مسائل إجرائية، كذلك بدت هذه الاجتهادات وكأنها كلها، سواء تلك التي عرضها مؤيدو الاقتراح أو معارضوه، تصب في مسرى تطوير والارتقاء بالعمل العربي المشترك .

الذين عارضوا الاقتراح قالوا إن عقد قمتين في السنة قد يكون على حساب التحضير الجيد لكل منهما، بحيث تأتي المقررات بعيدة عن النضج، وأضافوا قائلين إذا كانت هناك قضايا طارئة واستثنائية، فليس هناك من عقبة قانونية أو إجرائية تحول من دون عقد قمة طارئة عربية هذا علماً بأن نسبة عالية من القمم العربية كانت من هذا النوع . كذلك أشار معارضو الاقتراح إلى ldquo;ضيق وقت الزعماء العربrdquo; وإلى انشغالاتهم الكثيرة والى ارتباطاتهم والتزاماتهم المتراكمة التي لا تسمح لهم بتلبية الدعوات إلى القمة . فإذا انعقدت القمة وتغيب عنها زعماء عرب كثر بحكم انشغالهم، تفقد القمة مصداقيتها ويتعطل عملها، مما يرتد سلباً على العمل العربي المشترك .

الذين أيدوا المقترح كانوا يستندون إلى خلفية معروفة وشائعة في تجارب الأقلمة والتعاون الإقليمي، والى تقاليد وأعراف كرستها هذه التجارب بما في ذلك تجربة التعاون العربي نفسه . القاعدة العامة والرئيسة في هذه التجارب أن هناك علاقة وطيدة وسببية أحياناً بين وتيرة مؤتمرات القمة ونموها كماً ونوعاً . فهذه المؤتمرات تشكل أقنية أساسية لما دعاه كارل دويتش أحد أهم علماء الأقلمة الدوليين - الاهتمام المتبادل، التواصل والتفاعل- بين النخب الحاكمة في الدول المعنية بمسألة التعاون الإقليمي . من هنا فإن التطور في عدد مؤتمرات القمة التي تعقدها المنظمات الإقليمية يوازي تطورا في العلاقات بين الدول الأعضاء في هذه المنظمات . كما أن التطور في نوعية هذه المؤتمرات أي في الإعداد الجيد لها وجدية مقرراتها وتركيزها على الأولويات وفي مدى الالتزام بهذه المقررات يعتبر واحداً أيضا من مؤشرات نجاح وتقدم الأقلمة في المنطقة المعنية .

الخبرات الملموسة تؤكد صواب هذا الربط بين عدد مؤتمرات القمة وبين نجاح مشروع التعاون الإقليمي . فالجماعة الأوروبية بدأت بقمم غير منظمة وغير دورية خلال الستينيات وحتى منتصف السبعينيات عندما أقرت الجماعة مبدأ القمة الدورية والسنوية . وعندما عزم القادة الأوروبيون على تحويل الجماعة أو السوق الأوروبية المشتركة إلى اتحاد أوروبي، وعندما أرادوا تطوير العلاقات البينية داخل الهيكل الأوروبي اتجهوا إلى زيادة مؤتمرات القمة الأوروبية، بحيث أصبحت أربع قمم على الأقل كل سنة . وعندما تنامت أعباء الاتحاد باعتماد اليورو وبانضمام عدد كبير من دول أوروبا الشرقية والوسطى إليه، ارتفع عدد القمم السنوية بحيث عقدت عام 2009 على سبيل المثال ثماني قمم . ومن المتوقع أن تتكاثر القمم الأوروبية وألا تنقص جنباً إلى جنب مع تنامي التحديات الكبرى التي تواجه الاتحاد مثل ترسيخ اليورو وإطفاء الأزمة الاقتصادية التي ألمت بالعالم وبأوروبا .

الظاهرة نفسها يمكن ملاحظتها أيضاً في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، فعندما بدأت الرابطة في الستينيات لم تكن تعقد مؤتمرات قمة بل كانت تترك التنسيق والتعاون في ما بينها إلى مسؤولين ثانويين . وعندما اكتشف الزعماء الآسيويون أهمية الاندماج الإقليمي أخذوا يعقدون المزيد من القمم، ولكن في حدود دنيا فخلال الثمانينيات والتسعينيات عقدت هذه المنظمة خمس قمم فقط أي بمعدل قمة كل أربع سنوات . خلال العقد الحالي وبعد أن تأكد لزعماء آسيان بالملموس أهمية التعاون الإقليمي وجدوا أنه لا بد من تطبيق نظام القمة السنوية الدورية .

في المنطقة العربية نفسها، وبالعودة إلى مؤتمرات القمة العربية يمكننا أن نعثر على أدلة متعددة تؤكد صحة العلاقة بين الاهتمام بالعمل العربي المشترك والاقتناع بمزاياه، من جهة، وبين تزايد عدد ونسبة ونوعية مؤتمرات القمة العربية، والعكس بالعكس . أي عندما يطغى التشكيك بجدوى التعاون العربي تتراجع نسبة ونوعية مؤتمرات القمة العربية . وهكذا نلاحظ مثلاً أنه عندما شعرت القيادات العربية بضرورة تمتين عرى التفاهم والتعاون في ما بينها في مواجهة تزايد التحديات ldquo;الإسرائيليةrdquo; عام ،1964 فإنها لجأت إلى إطلاق مؤتمرات القمة العربية وعقدت خلال تلك السنة فقط قمتين . بالمقابل فإنه رجحت كفة التشكيك في أهمية التعاون بين الدول العربية على كفة تأكيد أهميته خلال مرحلة التسعينيات فإن الدول العربية لم تعقد إلا قمتين فقط .

ما الذي يمكن استنتاجه من كل ذلك؟ الاستنتاج الأقرب إلى المنطق هنا هو أن الذي يعارض عقد قمتين بدلاً من قمة واحدة لا يفعل ذلك لrdquo;ضيق وقت الزعماءrdquo;، وإنما لضيق بعض الزعماء بمسألة التعاون العربي وبالفكرة العربية أصلاً، ولأنهم لا يرغبون، في الأساس في تخصيص ولو النزر اليسير من وقتهم وجهدهم ومن وقت حكوماتهم من أجل إنماء التعاون بين الدول التي يحكمونها وبين الدول العربية الأخرى . إذا نجحت وجهة نظر هؤلاء الزعماء العرب ووفروا على أنفسهم وعلى غيرهم من زعماء إنفاق يومين إضافيين يقضونهما في بحث القضايا العربية الجماعية، فهل ينفقون هذا الوقت المعرّض ldquo;للضياعrdquo; في رعاية شؤون بلادهم؟ نعم لو كانت القمم العربية مجرد مناسبات فوتوغرافية . ولكن لو أن هذه القمم بحثت قضايا إقليمية جادة مثل تنمية التجارة العربية البينية، وتشييد بنى تحتية للتعاون بين الدول العربية والتصحر والبيئة وقضايا الأمن العربي الجماعي وأخطار تشطير أقطار عربية صغيرة وكبيرة، وعلاقات العرب بالدول المجاورة لوجد الزعماء العرب الذين يبخسون على العمل العربي المشترك بقمة إضافية، أنهم بحاجة إلى أربع قمم عربية في السنة بدلاً من القمتين . ولو شاء هؤلاء الزعماء الحفاظ حقاً على صدقية القمة لانصبّ جهدهم على التدقيق في أولوياتها وعلى جدية مناقشاتها وتنفيذ قراراتها، بدلاً من معارضة عقد قمتين في السنة لأنه ليس لديهم يومان يصرفونهما في الاهتمام بالقضايا العربية!