أحمد يوسف أحمد


انعقدت في الثامن والعشرين من الشهر الماضي قمة عربية خماسية في العاصمة الليبية طرابلس ضمت رؤساء كل من العراق ومصر واليمن وأمير قطر وقائد الثورة الليبية. وقد جاء انعقاد القمة تنفيذاً لقرار اتخذته قمة سرت في مارس الماضي، ونص على التحرك نحو إقامة اتحاد الدول العربية، وشكّل لجنة خماسية عليا من الأطراف المذكورة آنفاً لإعداد وثيقة لتطوير العمل العربي المشترك تعرض على القمة الاستثنائية المقرر عقدها في أكتوبر القادم. ولا شيء يطرب له الحريصون على مستقبل العمل العربي المشترك أكثر من تنفيذ القرارات التي تتخذها مؤسساته المختلفة، ولذلك فإن انعقاد القمة الخماسية يعد خطوة إيجابية في حد ذاتها، ولكن ثمة ملاحظتين مع ذلك لابد من التوقف عندهما: الأولى أن قرار قمة سرت بعقد قمة خماسية كان تعبيراً عن الإخفاق في بلورة موقف عربي جماعي من مقترحات تطوير العمل العربي المشترك، وبالذات المبادرة اليمنية بإقامة اتحاد للدول العربية، التي تحظى بمساندة ليبية ظاهرة، على الأقل بالنظر إلى أن جوهر الفكرة يعود إلى مقترح مشابه تقدمت به ليبيا قبل ذلك، ولذلك مثّل قرار قمة سرت بعقد قمة خماسية حول الموضوع حلاً وسطاً، فلا هي أسقطت المقترح اليمني، ولا هي قبلته، وإنما عولت على عامل الزمن مع تضييق نطاق المناقشة العميقة للمقترح لعل القمة الخماسية تمضي به خطوة إلى الأمام، أو تقنع أنصاره بضرورة التريث، لكن قمة طرابلس مثلت امتداداً أميناً لما جرى في قمة سرت على نحو ما سنرى.

أما الملاحظة الثانية فتتعلق بالبند الأساسي على جدول أعمال قمة طرابلس، وهو مبادرة اتحاد الدول العربية التي تقدمت بها اليمن، وتعكس هذه المبادرة نهجاً قانونيّاً إلى تطوير العمل العربي المشترك، بمعنى أن الأزمة في الهياكل القانونية وليست في التفاعلات الواقعية، فلو أننا عملنا على إيجاد إطار قانوني جديد لمنظومة العمل العربي المشترك نكون بذلك قد وفينا بالمطلوب تجاه تطوير هذا العمل، وعليه فإذا كانت جامعة الدول العربية لا تعجبنا، أو كان أداؤها لا يرقى إلى المستوى المطلوب، فليس علينا أكثر من أن نقترح شيئاً كذلك الذي اقترحته اليمن كي تحل مشكلات العمل العربي المشترك. ويسبب هذا النهج حرجاً للدول التي ترفضه أو لا تتحمس له، لأن رفضها أو عدم حماسها قد يفسران على أنهما ضيق بالعمل العربي المشترك أصلاً، وقد يكون هذا صحيحاً بالمناسبة. وفي مقابل هذا النهج ثمة نهج آخر يرى أن العبرة بالتفاعلات الواقعية، بمعنى ضرورة توافر إرادة سياسية لدى الدول الأعضاء في المنظومة تدفع باتجاه تطويرها، لأننا نملك الكثير من الهياكل القانونية الموجودة التي لا يتم تفعيلها، والتي لو تم ذلك لحققت نقلة نوعية في العمل العربي المشترك.

أسوق هذا التحليل حتى لا نظلم قمة طرابلس الخماسية، فهي لا تعدو أن تكون حلقة من سلسلة جهود طويلة سعت إلى التطوير دون أن تفضي إلى شيء يذكر، وهذه الجهود تكاد تكون قد نشأت مع نشأة الجامعة العربية ذاتها، وقد نذكر أن ميثاق الجامعة الموقع في 1945 قد أشار إلى إنشاء محكمة عربية للعدل أعادت قمة طرابلس الأخيرة التأكيد عليها لكن المفارقة واضحة، وهي أن خمسة وستين عاماً لم تكف العرب لإنشاء هذه المحكمة، بينما أقامت الحركة الصهيونية دولتها في فلسطين في حوالي خمسين عاماً بعد انعقاد مؤتمر بازل 1897 في سويسرا الذي نص على هدف إنشاء هذه الدولة، ونجح الأوروبيون في المدة نفسها تقريباً في إقامة اتحادهم الاقتصادي الذي جعلهم يمثلون إحدى القوى الاقتصادية الكبرى في عالم اليوم، ولذلك من الواضح أن العيب في الواقع العربي، وليس في إطاره القانوني.

يذكر لقمة طرابلس الخماسية في هذا السياق أنها لم تحاول أن تخدع أحداً، فقد تضمن بيانها الختامي أن النقاش داخلها قد كشف عن وجود وجهتي نظر تهدف الأولى إلى إحداث تعديل جذري وشامل وبوتيرة سريعة لإقامة اتحاد عربي، والاتفاق على ميثاق جديد تنفذ عناصره في إطار زمني محدد، والثانية تتبنى نهج التطوير التدريجي، والإبقاء على مسمى الجامعة العربية في المرحلة الحالية، وبحث إقامة الاتحاد عقب تنفيذ خطوات التطوير المطلوبة وتقييمها. وأجد نفسي منحازاً إلى وجهة النظر الثانية لاعتبارات أحسبها موضوعية، ذلك أن محاولة إنشاء بنية هيكلية جديدة للعمل العربي المشترك على الأساس القديم نفسه لا تعني سوى أن هذه البنية لن تختلف واقعيّاً عن سابقتها مهما استخدمت من عناوين براقة، وأنها بالعكس قد تؤدي إلى سرعة انهيار المنظومة، لأن الأساس القديم قد يكون قادراً على تحمل الوتيرة الراهنة لأداء جامعة الدول العربية، لكنه قد ينهار إذا حمل بمؤسسات جديدة ذات أعباء جسام، على أن الأمانة تقتضي الإشارة إلى أن الدول التي تعارض التطوير الجذري السريع ليست بالضرورة حريصة على تفادي مخاطره على العمل العربي المشترك، وإنما قد تكون أصلاً رافضة لهذا التطوير، أو حتى لإطار العمل العربي المشترك ذاته، لكنها لن تجد خيراً من التذرع بالاعتبارات الموضوعية السابقة كي تؤسس عليها مواقفها الحالية من قضية التطوير.

اتخذت القمة بعد ذلك مواقف لا بأٍس بها على الصعيد الورقي من بعض قضايا العمل العربي المشترك المهمة مثل عقد القمة العربية مرتين في العام تكون الثانية منهما قمة تشاورية، وعقد قمم نوعية كما في حالة القمة الاقتصادية والاجتماعية التي عقدت بالكويت في 2009، أو القمة الثقافية المزمع انعقادها فيما هو مقبل من شهور أو سنوات، وإنشاء مجلس تنفيذي على مستوى رؤساء الحكومات أو من في حكمهم يتولى الإشراف على تنفيذ قرارات القمم العربية، وإقامة مجلس لوزراء الاقتصاد والتجارة، وبحث الحاجة لإقامة مجالس وزارية قطاعية أخرى، واتخاذ الخطوات اللازمة لإقرار النظام الأساسي للبرلمان العربي الدائم، وتكليف وزراء الخارجية العرب بإعادة دراسة النظام الأساسي لمحكمة العدل العربية، وإعادة تشكيل مجلس السلم والأمن العربي بما يضمن فاعليته، وإنشاء جهاز تنسيقي عربي للإغاثة، وتكليف الأمانة العامة بإعداد برنامج زمني للتطوير في حدود خمس سنوات وبيان تبعاته المالية.

ويمثل كل ما سبق قرارات إيجابية دون شك، لكن المرء يخشى أن يؤول مصيرها إلى ما آلت إليه آلاف من قرارات مؤسسات العمل العربي المشترك ما بين التجاهل وعدم الجدوى، فمستوى التمثيل في القمم التشاورية أو النوعية قد يأتي ضعيفاً، وقد تلقى قراراتها مصير قرارات القمم السياسية الدورية، وإقامة مجالس وزارية جديدة أمر مطلوب، لكن هذه المجالس قد لا تحدث النقلة النوعية المرغوبة باتجاه تعزيز الأواصر العربية، والبرلمان العربي الدائم بفرض إقرار نظامه الأساسي قد يتحول في لحظات معينة إلى تجمع لممثلي برلمانات قُطرية، وإخفاق محاولات إنشاء محكمة العدل العربية الذي يعود على أقصى تقدير إلى 1964 ليس خافياً على أحد، وليس ثمة ما يفيد إمكانية تفعيل مجلس السلم والأمن العربي في ضوء الخبرة الماضية لتجربة مجلس الدفاع العربي المشترك وشح التمويل الذي سيهدد بدوره المقترح المرغوب فيه لإنشاء جهاز للإغاثة العربية، ناهيك عن معضلات تنفيذه سياسيّاً. ليست هذه نظرة تشاؤمية إلى المستقبل، ولكنها محاولة للتذكير بأن تطوير العمل العربي المشترك أكثر تعقيداً مما يتصوره البعض.