من التداعيات الساخنة للحرب الإسرائيلية على لبنان تفاقم أزمة التعليم. فمع انطلاق العام الدراسي في البلد، ولو متعثراً، وسّعت إسرائيل عدوانها ليشمل بشكل وحشي كل مدن الجنوب وقراه والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاعين الشمالي والغربي وبعض الأوسط، مشردة أكثر من مليون إنسان توزعوا على المناطق الآمنة أو شبه الآمنة في بيروت وجبل لبنان وصولاً إلى الشمال وعكار. طرح المستجد العسكري تحديات كبيرة على الحكومة وعلى البلد بأسره، لا سيما على القطاع التربوي، فالمدارس الرسمية تحولت مراكز إيواء للنازحين، ما جعل استئناف الدراسة فيها عملية معقدة أو شبه مستحيلة، والتلاميذ والطلاب المهجرون يعيش معظمهم في ظروف كارثية مادياً وسكناً ونفسياً، ليس أقلها الحرمان من معظم متطلبات الدراسة، فيما كان القطاع الخاص الذي يخضع لضغوط الأهالي يلح على بدء الدراسة لأنه غير قادر على الاستمرار في دفع رواتب معلميه وموظفيه إذا لم يستأنف التعليم واستيفاء الأقساط التي عرفت ارتفاعاً كبيراً بات الأهالي يئنون تحت عبئه. كان على وزارة التربية المرتبكة أن تتخذ قراراً يوازن بين رغبتين: رغبة المدارس والأهالي في المناطق الآمنة، ورغبة الأهالي والأطراف السياسيين في أماكن اللجوء والمناطق المنكوبة أو الهشة الأمان، فلجأت إلى السماح بالتعليم الحضوري في المناطق الآمنة والتعليم عن بعد في المناطق التي يتعذر تأمين التعليم الحضوري فيها تحت شعار تأمين المساواة بين جميع اللبنانيين، بحيث لا يضيع العام الدراسي على أحد. لم يخترع لبنان التعليم عن بعد، جامعات عالمية مرموقة اعتمدته في بعض الاختصاصات، خصوصا غير التطبيقية، كذلك جامعات عربية ذات سمعة جيدة، وهو نتاج طبيعي للانتشار الواسع للإنترنت السريع الفائق الجودة في بلدان الغرب ودول الخليج العربي، ولمتطلبات السوق واستقطاب المزيد من الطلاب ولتلبية حاجات السوق من الخريجين وتوفير تعليم أقل كلفة. لم يعتمد العالم التعليم عن بعد في التعليم العام، فما يمكن تطبيقه في الجامعات يصعب تطبيقه على أطفال الروضات وتلاميذ الإعدادي، حتى أن التجربة الجامعية في التعليم عن بعد لم تثبت نجاعتها الكاملة بعد، وما زالت قيد التغيير والتطوير والنقاش في بلدان عديدة، ويؤخذ عليها عموماً أنها تجارية الطابع وشهاداتها لا تحظى بالتقدير الذي تحظى به الشهادات الحضورية. كانت تجربة التعليم عن بعد خلال جائحة كورونا في لبنان فاشلة وأدت إلى انخفاض كبير في المستوى على الصعيدين المدرسي والجامعي على رغم الاستقرار الأمني في تلك الفترة، فيما الظروف اليوم أصعب بكثير، فلا استقرار معيشياً وأمنياً ونفسياً. أضف الى ذلك أن البنية التحتية من كهرباء وإنترنت وتجهيزات غير موجودة في مناطق كثيرة، واذا وجدت فهي ضعيفة ولا تلبي الحاجة. التعليم عن بعد ارتجالياً ليس تعليماً حقيقياً، هذا ما يعرفه الأهل والإدارات ووزارة التربية. هذا التعليم يحتاج إلى برامج متخصصة وتجهيزات، وإلى تأهيل للمعلمين وللأهل وللتلاميذ، وأيضاً الى عقليات مهيأة لتقبل التغيير، وهذا التغيير لا يمكن أن يأتي فجأة ودفعة واحدة. كل ذلك يتطلب مالاً والمال غير موجود. وهو كذلك سياق تربوي أخلاقي والتزامي من جميع الأطراف أين منه اللامبالاة والخفة اللتان تعامل بهما الجميع في التجربة السابقة. في السنوات الأخيرة تعرض التعليم في لبنان لضربات كثيرة بدءاً بالشكوك التي ترافق نتائج الامتحانات الرسمية الى التساهل الكبير فيها والتدخل السياسي في العملية التربوية وصولاً إلى التعليم الإرتجالي عن بعد، ما يطرح أسئلة مصيرية عن هذا التعليم الذي كان إلى حد بعيد يعتبر من الأرقى في المنطقة اذا لم يكن الأرقى. وقد قيل عن حق إذا أردت ان تضرب بلداً اضرب التعليم فيه. لعلها تكون مرحلة عابرة ويعود أهل التعليم إلى مؤسساتهم قبل أن يصبح الاستثنائي الطارئ قاعدة سهلة تفرض نفسها بلا دراسة ولا تخطيط ولا إعداد حقيقي.