وليد نويهض

جددت الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية المصرية، التي تشهد مقاطعة غير مسبوقة لما يسمى بالمعارضة، طرح السؤال عن لماذا تهاب معظم الأنظمة العربية من قوى الاعتراض وتتعامل معها وكأنها جاليات أجنبية (خارجية) جاءت إلى البلاد من وراء الحدود؟

التعامل الحذر المعطوف على مجموعة مخاوف مصطنعة ومبالغ في مخاطرها تتحمل مسئوليته السلطات السياسية المحلية في جانب وقوى الاعتراض في جانب آخر. ويكمن السبب المباشر في المخاوف المتبادلة إلى اختلاف طبيعة السلطة عن طبيعة قوى الاعتراض. والسبب البعيد يتركز في ضعف بنية الدولة وهشاشة تجربتها السياسية مقابل الصفة الانقلابية التي تتمتع بها عادة طبيعة قوى الاعتراض العربية.

هذا الاختلاف في تكوين السلطة العربية وابتعادها عن التركيب الاجتماعي لقوى الاعتراض غير موجود مثلاً في أوروبا التي نجحت في بناء دولة عقدية تأسست على دستور يتكفل حماية المواطن (العقد الاجتماعي عند لوك وروسو) وتحصين الوطن (مصلحة الدولة العليا فوق الجميع). فالدولة الوطنية في أوروبا شكلت ذلك الوعاء السياسي (الهوية الجامعة) للأفراد وتحولت تاريخياً إلى قوة تضمن المصلحة المشتركة من دون تمييز بين الناس باعتبار أن الولاء يتركز على مرجعية محلية واحدة ولا يتفرع أو يتشتت إلى مراجع متضاربة في التعامل مع الداخل.

التوافق العقدي بين الدولة والمجتمع في أوروبا وحد المشاعر والولاء والانتماء فأصبحت السلطة والناس تتمتعان بالمصير المشترك بغض النظر عن هوية الحزب أو برنامجه السياسي. فالحزب هو جزء من تكوين الجماعة ومنه تتشكل الرؤى التي ترسم خطوطه وطموحاته سواء كان في الحكم يدير السلطة ويرعى مصالح الناس وسواء كان في المعارضة ينتقد الحكومة ويكشف عن أخطاء ترتكبها في سياستها العامة واليومية.

المسألة في الطورين (السلطة أو الشارع) لا تختلف لأن الدولة ومصالحها فوق الجميع وهي الملجأ الذي تتحصن فيه كل القوى من دون اختلاف أو تمييز. فالدولة في أوروبا هي الأب أو الراعي ولا اختلاف بين أبناء المجتمع على حمايته والدفاع عنه. وبسبب هذه النزعة الموحدة التي تأسست في عصر النهضة الأوروبية وترسخت وتطورت في عصر التنوير أخذت الدولة مكان كل المرجعيات السابقة على تكوينها التاريخي وتطور وظائفها التي تمددت زمنياً لتشمل مختلف حقول الرعاية أو الحماية أو الدفاع التي كانت الكنيسة العابرة للحدود تلعب هذه الأدوار الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

قوة الدولة في أوروبا جاءت من قوة الاجتماع البشري (العمران) والمعرفي ما أعطى فرصة لنمو الوعي الوطني المشترك تحت سقف المصلحة العليا. وأدى هذا التطور في العقد الاجتماعي إلى تطوير الصيغة التعاقدية بين الدولة والمجتمع وتحولت السلطة إلى نوع من الإدارة المؤقتة التي تشرف عليها النخبة المختارة (المنتخبة دورياً) أو الحزب الفائز أو الصفوة البيروقراطية المتجانسة مع مؤسسات الدولة وطموحاتها ومشروعاتها. فالسلطة في أوروبا وظيفة وليست موقعاً تمتاز فئة معينة بالحصول عليه ولذلك جاءت فكرة التداول (الصندوق والاقتراع) لتشكل ميدانياً خطوة سياسية لتجسير العلاقة بين الموالاة (نعم) والمعارضة (لا).

الموالاة والمعارضة في أوروبا وأميركا تتركبان من المادة (العينة) نفسها ولا اختلاف بينهما في الولاء والانتماء حتى إذا اختلفت المسئولية لأن الجميع يعمل تحت سقف الدولة (الدستور). الحزب الحاكم لا يختلف عن الحزب المعارض إلا في البرنامج السياسي وسلطة الرقابة لكون الجميع في النهاية جاء من مكان واحد ويعود إلى المرجع نفسه (احترام الدستور وعدم التفريط بمصالح الدولة العليا).

هذه الوحدة في الهوية الجامعة تشكلت من المشترك في المادة البشرية بين السلطة والشارع أو بين الحاكم والمحكوم أو بين الحزب الموالي والحزب المعارض. فالكل سواسية ولا يمكن أن يلعب الحاكم دور التخوين أو القوة الطاردة للمعارضة، كذلك لا يمكن أن تقلب المعارضة صيغة التعاقد (المصالحة) لأنها أصلاً جاءت من المادة نفسها ولكون البرلمان مجرد صورة مؤقتة تعكس مستوى تطور العملية السياسية للديمقراطية (مادة الصورة). وبسبب هذا التطور التاريخي في العلاقة الوظيفية بين السلطة والجمهور الانتخابي أخذ مفهوم التداول موقعه في إدارة التعارضات سلمياً ومن دون حاجة للعنف ومن دون ضرورة للخوف والتوتر والقلق من نمو شعبية المعارضة وتراجع نفوذ السلطة. فالتبادل السلمي للمواقع يلعب دوره في منع التوتر من الانفجار لكون المسئول اليوم يمكن أن يتحول إلى المعارضة والمعارض يمكن أن يحتل غداً موقع المسئول... وهكذا.

العملية التداولية المذكورة غير موجودة في معظم أرجاء المنطقة العربية لأن طبيعة السلطة مختلفة، كذلك طبيعة قوى الاعتراض. والسبب في ذلك تاريخي وتكويني ويعود إلى ضعف مفهوم الدولة وفكرة الولاء للوطن وعدم التوافق على الصيغة التعاقدية التي تضع المصلحة المشتركة فوق الجميع. فالهشاشة في تكوين الدولة يجعل معظم الأنظمة العربية في حال هلع وخوف وترقب وتوجس من قوى الاعتراض (المعارضة) وما تمثله من أحزاب وهيئات ومنظمات. والسلطة حين تكون هزيلة ولا تعترف بالتداول السلمي تصبح في موقع الريبة من الخصوم وتبدأ التعامل معهم بوصفهم جاليات أجنبية وقوى خارجية لا تنتمي إلى النسيج الاجتماعي - الأهلي الذي تتألف منه كل الجماعات.

إلى هذه الأسباب القريبة هناك مجموعة أسباب بعيدة تعطل إمكانات انفتاح السلطة على قوى الاعتراض وهي تتجلى في طبيعة المعارضة وتكوينها الأهلي الانقلابي. فالسلطة حين تتعامل مع قوى الاعتراض بوصفها فئة تنتمي إلى مادة أخرى ولا تشترك معها في التكوين التاريخي نفسه تصبح متخوفة من نمو قوة قهرية لا تؤمن بالمفهوم التداولي الذي يسمح بضبط التعارضات سلمياً.

هذا التصور السلطوي لقوى الاعتراض مقابل الصفة الانقلابية للمعارضة يعطل إمكانات تطور العملية التعاقدية السياسية والتداول السلمي للحكم ويعزز في المقابل الإيديولوجية الطاردة التي تبالغ في القلق وتلجأ إلى لغة التخوين أو التخويف لمنع التكتلات المخالفة من التقدم أو بلوغ درجات متقدمة في هرمية الحكم.

الايديولوجية الطاردة غير موجودة بقوة في الولايات المتحدة إلا في دوائر هامشية محددة ومحاصرة لأن الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي ينتميان إلى المادة نفسها والبرلمان مجرد صورة تداولية للعملية السلمية التعاقدية. كذلك لا وجود لتلك الأيديولوجية الطاردة في بريطانيا أو ألمانيا أو فرنسا. فالأحزاب الأساسية تنتمي إلى مادة مشتركة تتكفل بضمان عدم اللجوء إلى الانقلاب أو عدم الاستئثار بالسلطة في حال جرت انتخابات. فالانتخابات هي واسطة لقياس موازين القوة السياسية في كل مرحلة ودورة وليست منطلقاً للانقضاض على الديمقراطية ومفهوم التداول السلمي للحكم.

هذا الفضاء الاجتماعي - التاريخي غير متوافر في بنية التكوين الثقافي لمعظم الأنظمة العربية وسلطاتها. لذلك وبسبب الأسباب القريبة والبعيدة تخاف الحكومات من قوى الاعتراض وتتعامل معها بوصفها أجهزة أجنبية أو جاليات غريبة في تكوينها الأهلي أو قوى منظمة مستقلة عن النسيج الوطني الواحد تخطط للانقضاض على السلطة ومصادرتها إلى ما لا نهاية.

الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية التي تجرى اليوم في مصر جددت طرح السؤال بشأن الأسباب الكامنة وراء مخاوف معظم الأنظمة العربية من قوى الاعتراض. فالقلق مرضي في طبيعته السلطوية ولكنه في الآن يعكس ذلك الضعف البنيوي للدولة والطبيعة الانقلابية للمعارضة