حسين العودات

لا شك أن القضية الفلسطينية هي قضية العرب الأولى، فقد أثرت على تاريخهم المعاصر كله منذ ستين عاماً، وسببت أو كانت مبرراً لانقلابات عسكرية وتغيير أنظمة سياسية، وحروب مدمرة بين الدول العربية وإسرائيل، وعاملاً هاماً في تأخير خطط التنمية وربما إفشالها في معظم البلدان العربية، وقد قفز تحت شعارها إلى السلطة حكام مستبدون ودكتاتوريون أو شموليون، وفشلت عملية بناء الدولة الحديثة في معظم البلدان العربية، فتحت شعار أولوية التحرير، استبعد بعض الأنظمة العربية؛ الحرية والديمقراطية والمساواة وتداول السلطة وفصل السلطات، وتم الاستخفاف بمرجعية المواطنة..

وقد دفع العرب كما الفلسطينيون، ثمناً غالياً بسبب صراعهم مع الحركة الصهيونية ومع إسرائيل. لهذا كله من حق المراقبين والمحللين السياسيين والناشطين والمناضلين العرب، أن يتحدثوا في شؤون القضية الفلسطينية، ويدخلوا في عمقها، ويتناولوا بالحوار جوانبها المختلفة، لأنها قضيتهم كما هي قضية الفلسطينيين، ولهم أن يناقشوا مستقبل هذه القضية، وقرارات القيادات الفلسطينية (مع احترامنا للقرار الوطني الفلسطيني المستقل). واستطراداً، فمن حق العرب أن يطلعوا على أسباب صراع حركتي حماس وفتح وأهداف هذا الصراع ومنعكساته، ومحاولات المصالحة بينهما، باعتبار أن هذا الأمر لا يخص الشعب الفلسطيني وحده، بل يخص الأمة العربية كلها شعوباً وأنظمة سياسية.

حاول كل من الطرفين، فتح وحماس، التأكيد على أن خلافاتهما تدور حول القضية السياسية، والحل المقبل وشروطه، ومواصفات الدولة الفلسطينية المنشودة، ومكوناتها وماهيتها ونظامها السياسي، فضلاً عن حدودها وحق العودة واستعادة القدس. وما زالت الحركتان تصرحان بذلك بعد كل اجتماع، وتصدران بيانات غامضة حول خلافاتهما، ولا تبوحان بحقيقة هذه الخلافات وتفصيلاتها، مما يوحي بأن المصالحة قريبة بين الطرفين، بينما الواقع، كما أعتقد، هو غير ذلك تماماً، فالمصالحة بين الطرفين تكاد تكون متعذرة في ضوء الظروف القائمة، ما دام الشرط الموضوعي لهذه المصالحة غير متوفر، لا لدى فتح ولا لدى حماس، والأسباب الحقيقية للخلاف هي غير ذلك.

لا يختلف الطرفان في الواقع، وفي نهاية المطاف، على شروط التسوية أو على شكل الدولة، لأن قول حركة حماس بضرورة تبني أسلوب المقاومة من جهة، وبالمطالبة بفلسطين من البحر إلى النهر من جهة أخرى، هو قول يعبر عن أمنية وليس عن حقيقة سياسة حماس، التي ترددت تجاه أسلوب المقاومة منذ سنتين وحتى الآن، وأخذت تمنع إطلاق أية قنبلة أو رصاصة في اتجاه الأرض المحتلة (وقد أصدرت حركة الجهاد أكثر من بيان استنكر هذا الموقف وشكا من أن حماس تمنعها من الجهاد). أما إقامة الدولة من النهر إلى البحر الذي طرحته حماس في برنامجها، فقد استبدلته فعلياً وقبلت بحدود (1967)، على أن تكون حدود هدنة لمدة خمسة عشر عاماً أو يزيد. وفي الحقيقة فإن برنامجها لم يعد يختلف عن برنامج فتح تجاه مشروع الحل، إلا في بعض القضايا الثانوية، وبعض الإجراءات والسبل الموصلة إليه. ولذلك لم تأخذ المحادثات بين الطرفين المتعلقة بالحل وبرامج التسوية وشروطها، أكثر من اجتماع واحد، ثم بدأ الخلاف الجدي بينهما عندما بدأ نقاش مشكلة الأمن، أي حدود سلطة كل منهما على الداخل (الحكومة وأجهزة الأمن وطرق الانتخاب ومدى الهيمنة على المجتمع)، فضلاً عن الدخل المالي الذي سيجنيه كل طرف من وراء مشاركته في هذه السلطة. إذن، هو خلاف على السلطة والمال، وليس على شؤون القضية الفلسطينية.

نحن نعلم أن حركة فتح فتحت لكوادرها وقيادييها الذين هم قياديو السلطة الوطنية، باب الغنى والإثراء، وتوزعوا الشركات والاستثمارات ومصادر الدخل وتكسبوا منها، في الوقت الذي تسيطر فيه الحركة على مؤسسات السلطة وأجهزة أمنها، وتحكم الناس حكماً مباشراً، نادراً ما يسترشد بالقانون. كما نعلم في الوقت نفسه أن حركة حماس فتحت لنفسها ولكوادرها وناشطيها سبل الغنى، فسيطرت على الرسوم والجمارك والجبايات والجعالات وبدل فتح الأنفاق، فضلاً عن أتاوات ورسوم على إنشاء المؤسسسات الخدمية والتجارية والصناعية، والمؤسسات الاقتصادية والاستثمارية بشكل عام، فأصبحت هي وأعضاؤها مكتفين مالياً، بل أكثر من الكفاية لأنهم صاروا أثرياء، في الوقت الذي يحكمون الناس دون أخذ معطيات القانون بعين الاعتبار، ويتمسكون بمظاهر يحاولون من ورائها القول إنهم يؤسسون إمارة إسلامية، كمنع السفور أو تحريم سباحة النساء أو ارتياد المقاهي من قبلهن، أو منع بيع الخمور وغير ذلك، ويعتبرون أنهم بهذا إنما يضعون أساسات هذه الإمارة.

في ضوء ذلك، يمكن فهم تعقيدات المصالحة بين الطرفين وتعذر تحقيقها، رغم كل التدخلات العربية والوساطات والضغوط الداخلية والخارجية، ويبدو أن هذه المصالحة ما زالت متعذرة، لأن هدف كل من الطرفين هو المحافظة على ما بين يديه من سلطة ومال، والعمل للاستحواذ على حصة الآخر. وما القول بأن المصالحة سارت خطوة أو خطوات إلى الأمام، إلا ذر للرماد في العيون، ومحاولة لإقناع الشعب الفلسطيني والعربي وبعض الأنظمة السياسية، بأن الطرفين يشعران بملء المسؤولية ويعملان للمصالحة.. والأمر في الواقع ليس كذلك، ولا يمكن أن يكون كذلك ما دامت هذه الرغبات والأهواء قائمة.

إن الخلل الاستراتيجي شديد الوضوح بين إسرائيل والشعب الفلسطيني، بل بين إسرائيل ومجمل الأنظمة العربية، ولذلك تزداد مطالب الحكومة الإسرائيلية تطرفاً وعنتاً، ولا شك أن المصالحة بين فتح وحماس ستكون عاملاً مؤثراً في تغييره إيجابياً.. فهل يفعل الفصيلان الفلسطينيان ما يجب أن يفعلاه؟ وهل يعودان للثورة بدلاً من التشبث بالدولة، خاصة إذا كانت دولة متصورة وليست حقيقية؟

لعل اجتماعهما بعد أيام في دمشق، يضعهما في الطريق الصحيح..