السيد ولد أباه

أشعلت فتوى الفقيه السعوديquot;عبد الرحمن البراكquot; بتكفير وقتل من يبيح الاختلاط ضجة هائلة في الآونة الأخيرة، بسبب ما قد تفضي إليه من تهديد خطير للسلم الأهلي في جل البلدان الإسلامية، التي يسود فيها الاختلاط بين الجنسين في مواقع الدراسة والعمل.

تشكل هذه الفتوى المثيرة نموذجاً لفوضى الفتوى التي يعاني منها الحقل الإسلامي راهناً. وفضلاً عن ما يتسم به هذا الحكم الفقهي من شطط في التأويل وتشدد في المقاربة (التصور الجنسي لمفهوم الاختلاط)، فإن المشكل الذي يطرحه يتعلق بالمنهجية العامة للفتوى التي تستدعي وقفة تقويم ومراجعة من لدن علماء الإسلام الحقيقيين الواعين بتحديات الأمة الحالية.

فغني عن البيان أن المجتمع الإسلامي يعاني اليوم انفصاماً خطيراً بين مدونة فقهية لا تزال هي إطاره المرجعي وإنْ كانت في كثير من جوانبها معطلة غير مطبقة وأوضاعاً معيشة كرست تقاليد راسخة، لم تكتسب شرعية معيارية بالمنظور الفقهي.

ولهذا الانفصام آثار مدمرة جلية، يتعلق بعضها quot;بشرعية الدولةquot; (تكفير الحكومات التي لا تحكم بما أنزل الله كما هو شائع في الخطاب الإسلامي السياسي المشترك)، ويتعلق البعض الآخر بالنظام القضائي، الذي يعاني من ازدواجية خطيرة في البلاد الإسلامية.

وعياً بهذه الإشكالية، ظهرت في الساحة الفقهية بعض المحاولات الأخيرة لردم هذه الهوة ،أبرزها ثلاث محاولات نشير إليها باقتضاب:

- ابتكار quot;فقه للأولوياتquot; يركز على ثوابت الدين ومقاصده وإجماعياته، لتوسيع دائرة المرجعية المعيارية للفتوى، باستثمار ثراء وتنوع التراث الفقهي الوسيط، وقبول القول المرجوح والضعيف لأغراض عملية واقعية. برز هذا الخط بقوة في مباحث quot;المصرفية الإسلاميةquot;، التي توسعت في السنوات الأخيرة.

- ابتكار quot;فقه للمرحلةquot; يكون فقهاً ظرفياً مؤقتاً يلائم وضعية المسلمين الحالية، في أفق استكمال quot;التحول quot; إلى الأرضية الإسلامية. ويستند هذا التصور إلى التجربة الإسلامية في عصر النبوة، التي اتسمت بالحركية والتدرج في تنزيل الأحكام.

- ابتكار quot;فقه للأقلياتquot; خاص بالجاليات المسلمة في الخارج التي تمارس دينها في مجتمعات لا يحكمها الإسلام، وتتعارض أنظمتها وقوانينها أحياناً مع بعض التشريعات الإسلامية الملزمة. والحيلة التي يستخدمها هذا النوع من الفقه هي التوسع في الأخذ بالضرورات مع اعتماد الأقوال الضعيفة والشاذة (كفتوى المجلس الأوروبي للإفتاء بجواز بقاء المسلمة الجديدة مع زوجها الكتابي).

إن هذه الأنماط الثلاثة من الفقه تلتقي في أمرين جوهريين هما: البقاء في المنظور الفقهي الكلاسيكي والبحث ضمنه عن حلول عملية لإشكاليات مطروحة بقوة، لا يمكن حسمها آلياً بالرجوع للمدونة التراثية.

وإذا كانت قد ظهرت بعض المحاولات الجريئة لإعادة بناء المنظومة الفقهية بكاملها (من أمثلتها محاولة جمال البنا في مصر ومحمود محمد طه في السودان الذي اعدم في عهد نميري)، إلا أن هذه المحاولات لم تكتس أي قبول داخل الحقل الفقهي، فبقيت هامشية لا أثر لها.

والواقع أن مصدر الإشكال الكبير الذي تطرحه مسألة الفتوى في السياق الفقهي هو: ما هي منزلة أحكام المعاملات في الإسلام؟ هل هي تشريعات قانونية ملزمة في تفصيلاتها الإجرائية المضبوطة أحياناً بدقة ووضوح في النصوص الثابتة (كبعض الحدود مثلاً وآيات التركة..) أم أنها داخلة في باب القيم، التي هي الإطار المعياري النظامي للقانون، لكن لا يمكن اختزاله في الميدان التشريعي؟

ولا بد هنا من تبيين حقيقة نادراً ما يتم التنبيه إليها، وهي أن القول الشائع بتماهي الشرع بمفهومه الديني والقانون بمفهومه المعاصر يقوم على مغالطة جلية، وهي أن القانون مسطرة إجرائية تنظيمية، وليس مدونة قيمية على عكس أحكام الشرع التي أنيطت بها هداية الناس وتربيتهم بالمنظور الأخلاقي.

وقد بين الفقيه الفرنسي (من أصل مغربي) quot;طارق أوبروquot; في كتاب له جديد أن الخلل المنهجي الذي أدى إلى quot;أزمة الفتوى quot; الحالية يتمثل في تصور تطبيق الشريعة من منظور الهيمنة والسيطرة. فالشريعة بالنسبة له لا تبحث عن الهيمنة على الواقع، وإنما التكيف معه، بالانطلاق من مجموعة من القيم يشترط تجسيدها تأويلًا موضوعياً للواقع. وقد يرى البعض أن هذا الموقف يتناقض مع مبدأ شمولية الإسلام، إلا أن quot;أوبروquot; يرى أن الإسلام، وإن كان بالفعل حاملاً لرؤية كونية ميتافيزيقية كونية شاملة للوجود والعالم، فإن الأمر هنا يتعلق بالمستوى اللاهوتي والأخلاقي، وليس بالتشريع الذي ارتبطت صياغته تاريخياً بالمفهوم السياسي الشمولي لنظام الخلافة، الذي هو صناعة بشرية وليس نظاماً مقدساً.

وبغض النظر عن كون الخلافة ظلت إلى حد بعيد نموذجاً طوبائياً وليس حقيقة واقعية، فإن القرآن كرس قيماً مطلقة ملزمة كالعدل والمساواة وكرامة الإنسان، كما وضع لها صيغاً معيارية بحسب أوضاع المجتمع المسلم التاريخية، ومن الخطأ اختزال المبادئ القيمية السامية في تعبيراتها السياقية المحدودة. فالكوني هنا لا يترجم إلا في الجزئي المتعين، ومن هنا ندرك أهمية أسباب النزول في فهم سياق الآيات. فالمنطق الشرعي يفتتح أفقاً معيارياً لتاريخ إنساني متحول. فما يجب تفاديه هو أن تتحول الأحكام الشرعية إلى حجاب يحول دون تبين غايات ومقاصد الشريعة، فتنتهي بإضعاف زخمها الروحي وعمقها الإيماني، إذ من شأن المعايير المنفصمة عن مقاصدها أن تتحول إلى مجرد جسم بلا روح.

فالفتوى إذن ليست من هذه المنطلقات استخراج حكم شرعي من مدونة فقهية جاهزة ومكتملة، بل لها صيغتان متمايزتان:

- صيغة إيجابية مشتركة (مجالها الأحكام التعبدية الاجماعية القطعية ) وصيغة إيجابية فردية تتعلق بالحالات الخاصة التي قد تقتضي مراعاة ضرورات وإكراهات تفرض تعديل الحكم.

- صيغة سلبية عن طريق النسيان الإرادي أو الصمت المبدئي: تتمثل في تعليق بعض فروع الشرع وجزئياته لانقطاع سياقها أو عدم توفر شروط تحققها، وهو مبدأ إسلامي أصيل لا غبار عليه.