واشنطن

على رغم محاولات التخلص من تركة الشرق الأوسط الثقيلة التي ورثها عن الإدارة السابقة، يواجه أوباما صعوبة كبيرة في فعل ذلك. وأبرز عناصر هذه التركة، حرب غير مرغوب فيها في العراق، وعملية سلام إسرائيلي - فلسطيني مفلسة. ولكن هناك عنصرا ثالثا لا يقل أهمية في تأثيره السلبي على جهود الإدارة.

يتلخص هذا العنصر في الفهم السائد في أميركا عن منطقة الشرق الأوسط. فكثيراً ما نظر المسؤولون الأميركيون إليها، باعتبارها منطقة تنقسم انقساماً كبيراً، بين متطرفين موالين لإيران، ومعتدلين متعاطفين مع الولايات المتحدة الأميركية.

وفي حين لا يخلو هذا التقسيم العام من بعض الصحة، فإنه يعكس واقعاً ساكناً نسبياً، ويمكن تحديد أخطائه مباشرة، وهي صورة غير حقيقية بالطبع لمنطقة يتسم واقعها بالميوعة وتنامي الانقسامات الداخلية.

والمشكلة أن هذه الذهنية -التي لا تعطي اهتماماً للتحولات النسبية الجزئية الصغيرة التي تحدث في واقع المنطقة، وتتطلع بدلاً منها إلى تحولات جوهرية كبيرة، تبدو غير منطقية في الوقت الحالي- تخاطر بذلك بإهدار فرص السلام الحقيقية، التي من شأنها المساعدة على إعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط.

والحقيقة أن التحولات التي حدثت خلال السنوات القليلة الماضية، ضللت الكثيرين من قادة واشنطن الذين يحملون تلك الفكرة السائدة عن المنطقة.

فعلى سبيل المثال، توسطت دولة قطر في إبرام اتفاق الدوحة الذي هدف إلى توحيد صفوف اللبنانيين، في شهر مايو من عام 2008.

وفي الوقت نفسـه، بدأت تركيا جهـود وساطة من أجل التفاوض الإسرائيلي- السوري.

وبينما عبرت الرياض منذ فترة طويلة عن شكوكها في جدوى الأهداف المتعلقة بسوريا، فالملاحظ أن المحادثات بين الرياض ودمشق قد استؤنفت بالفعل. بل توصلت العاصمتان إلى أرضية مشتركة، رمت ضمناً إلى رفض أي دور خارجي في أحداث التمرد المتصاعد في اليمن، وإلى المعارضة المشتركة الهادئة لسياسات رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، الذي يحظى بقوة دعم واشنطن. كما استأنفت الرياض اتصالاتها مع حركة quot;حماسquot; الفلسطينية، بعد فترة توقف وفتور بين الطرفين.

وفي دمشق أيضاً هناك مؤشرات مثيرة للاهتمام. والذي يلاحظ هنا بدء تقرب سوريا نوعاً ما، إلى قطر وفرنسا وتركيا، بصفة خاصة، قياساً إلى ما عرفت من قوة تحالف مع طهران من قبل.

وشملت التحولات كذلك، تعيين وإرسال سفير لدمشق في بيروت، متخطية بذلك إحدى المحرمات التاريخية التي سادت علاقات الجوار بين هاتين الدولتين.

وبالنظر إلى سكون معايير المنطقة، فإن هذه التحولات المتواضعة النسبية، تعد كبيرة جداً.

وفي المقابل، فليس هناك الكثير مما هو مشترك فعلاً بين البلدان التي توصف بأنها quot;محور المعتدلينquot;، لا سيما مصر والمملكة العربية السعودية والأردن. فهناك اختلاف كبير في نظم الحكم بين هذه الدول، إلى جانب تفاوت الإرادة السياسية بينها فيما يتعلق بالحوار مع إسرائيل.

وتواجه مصر، التي تعد سياساتها الخارجية ومواقفها، معياراً لمحور المعتدلين المشار إليه من قبل، عدة تحديات داخلية وأخرى إقليمية مجاورة.

وفوق ذلك كله، يمثل عجز الولايات المتحدة الأميركية عن تقديم رؤية قيادية واقعية يعول عليها، لتسوية النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، عقبة كبيرة أمام جهود مصر، سواء ما يتعلق منها ببناء التحالفات الإقليمية اللازمة لدعم عملية السلام، أم إنشاء معسكر متماسك لدعم هذه العملية.

عليه، فإن التنافس الحقيقي اليوم في المنطقة، ليس هو بين المعسكر الموالي لإيران، وذلك الآخر الموالي لأميركا، بل هو تنافس بين رؤيتين داخليتين:

أولاهما، تساندها إيران، وهي تركز قبل كل شيء آخر على مقاومة إسرائيل والغرب بوجه عام. وتخاطب هذه الرؤية تشوق شعوب المنطقة إلى الحرية والكرامة، وتعطي اهتماماً كبيراً للتعاون العسكري بين دول المنطقة.

أما الرؤية الثانية فتمثلها تركيا بصفة خاصة، وهي تعوّل كثيراً على الجهود الدبلوماسية، والتفاوض بين جميع الأطراف، إضافة إلى دعوتها إلى التكامل الاقتصادي. لهاتين الرؤيتين جاذبية قوية بالطبع، في ظل غياب بديل حقيقي آخر تقوده الولايات المتحدة الأميركية.

وفيما لو استمر تمسك واشنطن بسلوكياتها الذهنية التقليدية المتوارثة بشأن المنطقة، فإن ذلك لا يعني شيئاً سوى حرمان نفسها من الوسائل التي تمكنها من التأثير الفعلي على الأحداث الشرق أوسطية.

والملاحظ أن واشنطن قبلت سلفاً أن تقف موقف المتفرج من تحركات دمشق والرياض وإسطنبول.

وإن كان لإدارة أوباما أن تؤثر على سير أحداث المنطقة وإعادة تشكيل خريطتها السياسية، فإن عليها أن تظهر ما يدل على جديتها في تجاوز النظرة التقليدية الموروثة عن المنطقة، التي تصورها بأنها ساحة يتواجه فيها quot;المتشددونquot; وquot;المعتدلونquot;، ويكون فيها النصر الحتمي للمعتدلين.

فهذه نظرة ليس لها ما يبررها في الواقع الإقليمي، ولا نصيب لها من التأثير الجدي عليه.

روبرت مالي - مدير برنامج الشرق الأوسط بمجموعة الأزمات الدولية

بيتر هارلنج - مدير لمشروع المجموعة الخاص بالعراق وسوريا ولبنان

ينشر بترتيب خاص مع خدمة laquo;واشنطن بوستraquo;