عبد الرحمن الوابلي

لا أحد ينسى الملحمة الإنسانية والوطنية المريرة (معركة تكافؤ النسب)، التي خاضها بطلاها الشديدان بكل شجاعة وحب ووفاء وكبرياء وشرف وإنسانية في دفاعهما عن حريتهما وحقهما في الاختيار، وهما فاطمة ومنصور، بدعم ومساندة من شرفاء وأحرار الوطن من نساء ورجال، والذين وقفوا معهما وساندوهما؛ حتى تكللت ملحمة صمودهما بالنصر الوطني والإنساني المبين. وهنا تنفس الناس الصعداء بنهاية القضية النهاية الوطنية المشرفة.
وما كاد غبار ملحمة كفاءة النسب ينجلي من سماء وطننا، حتى صدم الكثيرون من أحرار وغيوري الوطن يوم الجمعة الماضي، وهم يشاهدون برنامج الشيخ الدكتور سلمان العودة quot;الحياة كلمةquot;، عندما اتصلت عليه في البرنامج فتاة إيرانية، وسألته: هل يجوز زواج سنية بشيعي؟ فكان جوابه التالي: لن أكون مفتياً هنا. وإنما مرشدا ينصح بتكافؤ quot;الثقافةquot; بين من يريدون الزواج. ومهما حاول الدكتور سلمان بأن يدلي بنصيحة لا فتوى، كما ذكر، فموقعه هنا كشيخ سني معتبر، هو الذي جعل الفتاة تتجشم العناء وتتصل به، لا بكونه مرشدا وناصحا اجتماعيا. وأنا شبه متأكد بأن الفتاة قد أخذت نصيحته هذه كفتوى دينية ملزمة، لا كنصيحة مرشد اجتماعي، لها الحق بالأخذ بها أو ردها.
ومن خبرتنا لمثل هذه الأسئلة والتي تندرج تحت خانة استحلاب الفتاوى؛ قد تكون الفتاة، تقصد من سؤالها هذا، ثني صديقة أو قريبة لها عن الزواج بشيعي، حتى تضعها أمام الحجة الدامغة من فم مرجعية دينية سنية، حيث لم تستطع إقناعها برفض مثل هذه الزيجة. أو قد تكون هذه الفتاة، من المتعصبات مذهبياً ولا تقبل بما يحدث في مجتمعها من زيجات بين السنة والشيعة، وتعتبر الشيعي غير جدير بالزواج من سنية. فسؤال الفتاة كان مفتوحا، ويعبر عن حالة عامة، وليس عن حالة خاصة. أي لو كان يعبر عن حالة خاصة، لذكرت الفتاة مزايا إيجابية ترى بأن المتقدم لخطبتها يتمتع بها، ولكنها مترددة أو بعض أهلها مترددون فقط لكونه شيعيا. ولكنها في الأول والأخير حصلت على ما تصبو إليه، وهو حلب فتوى تبين للناس كافة بأن الشيعي غير كفؤ شرعاً للزواج من السنية، وذلك لغياب كفاءة المذهب بينهما، مهما أسميناها ثقافة أو نصيحة.
ومثل هذه الفتوى أو النصيحة، والتي من حق قائلها بأن يقولها، تدخل ضمن خانة وجهة الخطر وليس وجهة النظر. فكما أبنت في مقالي السابق، بأن وجهة النظر هي التي تكون متعلقة بأمر عام؛ أما وجهة الخطر فهي التي تحط من قيمة أحد أو فئة. وبما أن ما أفتى أو نصح به الشيخ سلمان العودة، يدخل ضمن وجهة الخطر، إذاً فحقي يستوجب مني وبلا تردد، بالغضب منها، ولزوم الرد عليها، من موقعي ككاتب وتفنيدها، بما أوتيت من علم ووطنية. ولو كان قائلها من أحبه وأقدره وأجله كثيراً وهو الشيخ الدكتور سلمان العودة، وخاصة بعد تبنيه الفكر الإسلامي التنويري؛ حيث ننتظر منه كل ما يبني ويعدل ويصلح ما هو مائل ومعوج في خطابنا الديني، لا إحداث المزيد من الشروخ والاعوجاج فيه، وهو المتخم بذلك. خاصة كون الدكتور سلمان، بدأ يخرج من عباءة الواعظ البسيط والفقيه المحدود الرؤية ويرتدي زي المفكر الإسلامي التنويري الشامل الرؤية.
إذاً فليسمح لي مفكرنا التنويري الدكتور سلمان، بأن أدخل معه في عملية تفكيك لما نصح به الفتاة الإيرانية وأبين تهافت نصيحته هذه لا تماسكها، علنا نخرج ويخرج معنا القراء وهم الأهم هنا، بفائدة من مثل هذا النقاش الذي أرجو بأن يكون بناءً ومفيدا. وسأتناول quot;مقولةquot; الدكتور سلمان كنصيحة، وليس كفتوى، مع شبه تأكدي من أن الفتاة وغيرها أخذوها كفتوى لا كنصيحة. وبما أن الدكتور سلمان أكد على وجود فارق ثقافي بين السني والشيعي، قد يخل في حالة ارتباطهما بالزواج من بعض، وهو شرط لنجاحه لا صحته، لا أساس له من الصحة أو المنطق إطلاقاً.
الدين بشكل عام لا يشكل وحده ثقافة شعب، ناهيك عن المذهب داخل الدين نفسه. فالثقافة في الأول والأخير هي تراكم مفاهيم تعبر عنها سلوكيات تفرز بمجملها منظومة أخلاق تحرك من تجمعهم سواء عن طريق وعيهم أو لا وعيهم. وتتشكل هذه المفاهيم والسلوكيات من بيئة كل شعب، حيث تحدد طرق كسب معاشهم وأسلوب معيشتهم. كما أن الشعب يستقي جزءا لا بأس به من تاريخه، كجزء من مكونه الثقافي. أي إن الجغرافيا والتاريخ هما أهم مكونين لثقافة أي شعب؛ ثم تأتي اللغة والدين، ليعبرا عن هذه الثقافة، ويصبحا جزءا منها. ولا يمكن أن تختلف ثقافة شعب عن بعضه الآخر، إلا في حالات نادرة في التاريخ لا يعتد بها مثل حالة quot;القيتوات.quot;
فمثلاً المسلم العربي أقرب للمسيحي العربي من ناحية الثقافة، من المسلم الإندونيسي أو السنغالي. كما أن المسيحي العربي أقرب من ناحية الثقافة للمسلم العربي، من المسيحي الأوروبي أو النيجيري. فالمسلم والمسيحي العربيان، يشتركان مع بعض من ناحية الشكل والملبس والذائقة واللغة والعادات والتقاليد والتاريخ والجغرافيا والهم الحياتي اليومي، وهي مكونات الثقافة الواحدة. والفارق الوحيد بينهما قد يكون فقط، في ممارسة طقوسهما الدينية. كما أن المسلم الهندي يشترك بالثقافة مع الهندوسي الهندي أكثر من اشتراكه مع المسلم العربي، وقس على ذلك، باقي الشعوب والثقافات.
وإذا اعتبرنا المذهب في الدولة الواحدة كثقافة، فالخطأ هنا، يتضح أكثر وأكثر. فهل من الممكن بأن يكون السني السعودي أقرب من ناحية العادات والتقاليد، للسني اللبناني، منه للشيعي السعودي، أو العكس..؟!! ثم ألا يوجد في السعودية ناهيك عن العراق، قبائل وعشائر، جزء منها سني وجزء منها شيعي؛ فهل هذا يعني بأن القبيلة (المعروفة بحاضنة الثقافة وخزينتها، تتحرك بثقافتين مختلفتين..؟! هذا غير معقول، خاصة إذا أخذنا في عين الاعتبار، أن مشايخ بعض القبائل والعشائر، قد يكونون من الشيعة، رغم كون غالبية بطونها من السنة، ونجد العكس صحيحا كذلك.
وليعلم أخي سلمان، بأن الشعب العراقي، لو أخذ بمثل نصيحته هذه، لكانت الحروب الطائفية قد اشتعلت أوارها، داخله من عقود، ولا نقول منذ إحداث الفوضى الخلاقة داخله. ولكن حمته منها، المصاهرة الخلاقة للأمن والاطمئنان والمحبة بين السنة والشيعة في العراق ومنذ قرون، ولو كره الحاسدون والحاقدون والمخربون، الذين يحيكون المؤامرات والدسائس ضده. وهذا ما جعل عراقنا الحبيب، عجل الله فك كربته، يسلم من شرور الحروب الطائفية وويلاتها.
ونصيحتي لأستاذي الكبير الدكتور سلمان، بالتفكير ملياً في نصيحته هذه، وأنا له من الناصحين. كما أنصحه كمحب ومقدر له ولعلمه ومواهبه البلاغية والخطابية، بأن يقتل، ولا يخنق فقط الداعية البسيط والفقيه محدود الرؤية داخله اللذين يخرجان من داخله دون أن يعي بذلك، بين الفينة والأخرى، مهما حاول جاهداً كبحهما.
حتى يطرح نفسه كمفكر إسلامي يعتد به، ونحن بحاجة له أكثر كمفكر، فساحتنا تعج بالوعاظ والفقهاء محدودي الرؤية عجاً.